المقالاتمقالات تاريخية

د. زين العابدين كامل: خلافة عبد الله بن الزبير (4)

خلافة عبد الله بن الزبير (4)

عبد الملك بن مروان وصراعه مع عبد الله ابن الزبير:

لما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب, قام فخطب في الناس, وحمد الله، ومما قاله: ” ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا, أتانا قتل مصعب -رحمه الله- فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة, وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة, ثم يرعوي بعدها ذو الرأي إلى جميل الصبر, وكريم العزاء, ولئن أصبت بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله, وما أنا من عثمان بخلو مصيبة” ([1]).

ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك, بكى وقال: ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له, حتى دخل السيف بيننا, ولكن الملك عقيم ([2]).

وبعد مقتل مصعب انحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فَتَّ في عَضُدِه وأصابه بالإحباط، ولكنه لم يُلْقِ الراية، وظل يقاوم حتى النهاية.

فهذة حملة حبيش بن دلجة القيني التى أتت من الشام لقتال ابن الزبير واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش ([3])، ثم جاءت حملة عروة بن أنيف في ستة آلاف إلى المدينة, وأمرهم عبد الملك ألا ينزلوا على أحد, ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية أو يعسكروا «بالعَرْصة»([4]) ,وسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة, ومكث عروة على هذا الوضع شهرًا, ولم يبعث إليه ابن الزبير أحدًا, ولم تحدث أي مواجهة بين جيشي عروة وابن الزبير, عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع، ثم كانت حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم: أرسل عبد الملك بن مروان هذه الحملة -وقوامها أربعة آلاف- إلى المدينة, وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بين الشام والمدينة. ثم كانت حملة طارق بن عمرو وكانت هذه الحملة هي آخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز ، ثم لم يضيع عبد الملك بن مروان وقتًا بعد انتصاره على مصعب, وقرر أن يقضي نهائيًا على دولة ابن الزبير ([5])، ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف, وتوجه بجيشه إلى الحجاز, واستقر بالطائف, وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة, وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها ,وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه ([6])، وفي الوقت نفسه كانت العير تحمل إلى أهل الشام من عند عبد الملك, السويق, والكعك والدقيق , وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة, أن بدأ التخاذل يدب بين أنصار ابن الزبير, وبدأوا ينسحبون واحدًا تلو الآخر, ومما شجع على تخاذل هؤلاء إعطاء الحجاج الأمان لكل من كف عن القتال وانسحب من جيش ابن الزبير ([7])، وأراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته, فأجابه عبد الملك بقوله: افعل ما ترى ([8])، فتوجه الحجاج ابن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها,([9]) وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضربًا متواصلاً ([10])، وفي الوقت نفسه كانت بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير , وتوسط بعض أعيان مكة وعلى رأسهم ابن عمر لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق فأجابهم: والله إني لكاره لما ترون ولكن ماذا أصنع وقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جاءت إلى مكة من كافة الأقطار الإسلامية, وقد منعهم من الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون من خطر المنجنيق, ولما كان في ذلك تعطيل لركن من أركان الحج فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتق الله فإنك في شهر حرام وبلد حرام, وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيرًا ([11])، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس من الحج, وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون, ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت , وأيًّا ما كان فقد كف عن استعمال المنجنيق حتى انتهى الناس من الطواف, وبعدما انتهى موسم الحج نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير ([12]).

ويروي البلاذري أن العديد ممن كانوا مع ابن الزبير حاولوا إقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف, فلم يستجب ابن الزبير لمحاولاتهم وأصر على القتال, وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير – رضي الله عنه – في مواجهة كتائب الحجاج، وبالفعل بدأ الحجاج يضرب الكعبة بعد انصراف الناس , وشدد على ابن الزبير, وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه, ومنهم ابناه حمزة وخبيب, اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما ([13])، فلما رأى ابن الزبير ذلك دخل على أمه فقال لها: يا أمه, خذلني الناس حتى ولديّ وأهلي, فلم يبق معي إلى اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة, والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا, فما رأيك؟ فقالت: أنت -والله- يا بني أعلم بنفسك, إن كنت تعلم أنك على الحق وإليه تدعو فامض له, فقد قٌتل عليه أصحابك, ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية, وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت, أهلكت نفسك, وأهلكت من قٌتل معك, وإن قلت: كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت, فهذا ليس من فعل الأحرار ولا أهل الدين, وكم خلودك في الدنيا, القتل أحسن، والله لضربة بالسيف في عزٍّ، أحب إلي من ضربة بسوط في ذلٍّ، قال: إني أخاف إن قتلوني أن يمثلوا بي، قالت: يا بني إن الشاة لا يضرها سلخها بعد ذبحها ([14])، فدنا منها وقبل رأسها، وقال: هذا والله رأيي، جزاك الله يا أمه خيرًا, فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبدًا، ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل, وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة, وبره بأبيه وبي, اللهم قد سلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين ,([15]) فتناول يديها ليقبلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعًا لأني أرى هذا آخر أيامي من الدنيا, قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبلها، ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرت في آخر عمرها، فوجدته لابسا درعا من حديد، فقالت : يا بني، ما هذا لباس من يريد ما تريد من الشهادة . فقال : يا أماه، إنما لبسته لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك به . فقالت : لا يا بني، ولكن انزعه، فنزعه، وجعل يلبس بقية ثيابه ويتشدد، وهي تقول : شمر ثيابك . وجعل يتحفظ من أسفل ثيابه ; لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكره بأبيه الزبير، وجده أبي بكر الصديق، وجدته صفية بنت عبد المطلب، وخالته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجيه القدوم عليهم إذا هو قتل شهيدا، ثم خرج من عندها، فكان ذلك آخر عهده بها رضي الله عنهما وعن أبيه وأبيها، ثم قالت : امض على بصيرة فودعها وخرج ([16])، قال مصعب بن ثابت: فما مكثت بعده إلا عشرا، ويقال: خمسة أيام ([17]).

استشهاد ابن الزبير رضي الله عنه :

كان ابن الزبير يخرج من باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينا وشمالا، ولا يثبت له أحد، وكانت أبواب الحرم قد قل من يحرسها من أصحاب ابن الزبير، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم ([18])، وفي آخر يوم من حياته صلى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: “ن وَالْقَلَمِ” حرفًا حرفًا, ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة ثم قال احملوا على بركة الله، ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون, فرُمي بحجر، فأصاب جبهته، فسقط, ودمي وجهه ([19])، وقاتلهم قتالاً شديدًا, فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة ([20])، وتولى قتله رجل من مراد, وحمل رأسه إلى الحجاج, وسار الحجاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه, فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجاج: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا, ولولا هذا لما كان لنا عذر, إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا, بل يفضل علينا, فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقًا ([21]). وقد ذٌكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: ما أُراني اليوم إلا مقتولاً, لقد رأيت في ليلتي كأن السماء فرجت لي, فدخلتها, فقد -والله- مللت الحياة وما فيها ([22]). ولما قٌتل عبد الله خرجت إليه أمه حتى وقفت عليه, وهي على دابة, فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها, فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق, وإنك بين فرشها والجيّة, فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت, وقد قال الله تعالى: “وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ” [الحج:25] وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم, قالت: كذبت, كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة, وسُرّ به رسول الله – صلى الله عليه وسلم – , وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحًا به, وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله, فمن كان فرح يومئذ خير منك ومن أصحابك, وكان مع ذلك برًّا بالوالدين صوامًا قوامًا بكتاب الله معظمًا لحُرم الله, يُبْغِض أن يُعصى الله عز وجل ([23])، وقد دافعت عن ابنها دفاعًا مجيدًا, فانكسر الحجاج وانصرف, فبلغ ذلك عبد الملك, فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح ([24]).

ولما قتل ابن الزبير ارتجت مكة بكاء على عبد الله بن الزبير رحمه الله، ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون، فما زالت مصلوبة حتى مر به عبد الله بن عمر فقال : رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت صوامًا قوامًا وصولاً للرحم, أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا, أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا, أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا, والله لأمة أنت شرها لأمة خير, ثم قال : أما آن لهذا الراكب أن ينزل ؟ فبعث الحجاج، فأنزل عن الجذع ([25]) ودفن هناك . ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك ([26])، ودخل الحجاج إلى مكة، فأخذ البيعة من أهلها لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيما بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضا، وهو على مكة واليمامة واليمن وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج لما يعرفه من فضله وفقهه ([27]).ولما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: أما بعد, فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت, وإن بنيّ قد أقروا بذلك , وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك, وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون, والسلام ([28]). ولا شك أن مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلومًا, وأن الحجاج ورفقته خارجون عليه.

وقد استمرت مدة خلافة ابن الزبير تسع سنوات، منذ عام 64ه، وحتى 73ه.

وبهذا انتهت التوترات السياسية واستقر الأمر لعبد الملك وسيطر على الدولة فى كافة أنحائها، واستمرت الدولة الأموية دون خلافات مع أهل الحجاز.

  1. () الطبرى : المصدر السابق، (7/ 47) .
  2. () الطبرى: المصدر نفسه (7/ 47) .
  3. () البلاذرى :أنساب الأشراف (5/ 151 – 153) .
  4. () العرصة: البقعة الواسعة بين الدور لا بناء فيها, وهما عرصتان بنواحي المدينة بالعقيق.معجم البلدان(7/53) .
  5. () عبد الشافي محمد عبد اللطيف :العالم الإسلامي في العصر الأموي ص503.
  6. () البلاذرى : المصدر السابق، (5/ 361)
  7. () البلاذرى : أنساب الأشراف، (5/ 360) .
  8. () البلاذرى : المصدر السابق، (5/ 358) .
  9. () ابن الضياء: تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، المحقق: ص 170 .
  10. () الفاكهي :أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه، (2/335) .
  11. () البلاذرى :المصدر نفسه، (5/ 376)
  12. () البلاذرى : نفسه، (5/ 376)
  13. () ابن الأثير:الكامل في التاريخ (3/ 69) .
  14. () أحمد زكي صفوت :جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة، الناشر: المكتبة العلمية بيروت-لبنان، عدد الأجزاء: 3(2/172) .
  15. () الطبرى : تاريخ الرسل والملوك (7/ 76) .
  16. () ابن كثير:البداية والنهاية (11/ 69) .
  17. () الطبرى:المصدر السابق، (7/ 79) .
  18. () ابن كثير:البداية والنهاية (11/ 69) .
  19. () الدينوري :الأخبار الطوال، ص 315 .
  20. () الطبرى : تاريخ الرسل والملوك (7/ 77) .
  21. () ابن الأثير:الكامل في التاريخ (3/ 73) .
  22. () الذهبى :سير أعلام النبلاء (3/ 378) .
  23. () ابن كثير: المصدر السابق، (11/ 209) .
  24. () ابن كثير، البداية والنهاية، (11/ 209) .
  25. () ابن كثير :المصدر السابق، (11/ 209) .
  26. () ابن الأثير:الكامل في التاريخ (3/ 74) .
  27. () البخارى :صحيح البخارى، كتاب الحج .
  28. () ابن سعد: الطبقات (4/ 152) .

 

زر الذهاب إلى الأعلى