نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (4)
عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (3)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على بعض كتب المؤرخين من حيث منهجهم في كتابة التاريخ، حيث إن منهج المؤرخ وميوله الفكرية والمذهبية له تأثير بالغ على كتابته التاريخية -كما ذكرنا سابقًا-، ومِن الكتب التي نريد أن نسلِّط الضوء عليها عن طريق النقد والتمحيص، والتي يجب الحذر منها؛ لأنها ساهمت بشكلٍ كبيرٍ في تشويه التاريخ الإسلامي لاسيما في مراحله الأولى:
كتاب: “الإمامة والسياسة” المنسوب لابن قتيبة([1]):
هذا الكتاب يعتبر من أكثر الكتب التي شَوَّهت تاريخ الإسلام، فهو يحتوي على أخطاءٍ تاريخيةٍ كثيرةٍ، فهو طافح بالروايات الضعيفة والموضوعة والمكذوبة؛ لذا كان الكتاب قنطرة للمستشرقين والمنافقين الطاعنين في تاريخ الإسلام؛ لا سيما وهو يتحدث عن الفترة ما بين خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وحتى خلافة هارون الرشيد.
وللأسف لقد رأينا بعض المؤرخين المعاصرين يعتمدون عليه في بعض النقولات، دون التثبت من نسبته لابن قتيبة رحمه الله، ومِن هؤلاء: عبد الوهاب النجار في كتابه: (الخلفاء الراشدون)، والخضري في محاضراته، وحسن إبراهيم حسن في كتابه: (تاريخ الإسلام).
هذا وفي نسبة الكتاب لابن قتيبة رحمه الله نظر، وقد ذكر بعض المهتمين بهذا الأمر عدة أدلة وبراهين تدل على كذب وزور هذه النسبة، ومنها:
- أن الذين ترجموا لابن قتيبة لم يذكر واحد منهم أنه ألَّف كتابًا في التاريخ يُدَعى: “الإمامة والسياسة”.
- أن المتصفح للكتاب المذكور يشعر وكأن ابن قتيبة رحمه الله أقام في دمشق والمغرب، في حين أنه لم يخرج من بغداد إلاّ إلى الدينور([2]).
- أن المنهج والأسلوب الذي سار عليه مؤلف الكتاب المذكور يختلف تمامًا عن منهج وأسلوب ابن قتيبة في كتبه التي بين أيدينا.
- يروي مؤلف الكتاب عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه قاضي الكوفة، بشكلٍ يُشعر بالتلقي عنه، والمعروف أن ابن أبي ليلى توفي سنة 148هـ، وأن ابن قتيبة لم يولد إلا سنة 213هـ؛ أي: بعد وفاة ابن أبي ليلى بخمسة وستين عامًا تقريبًا.
- إن الرواة والشيوخ الذين يروي عنهم ابن قتيبة عادة في كتبه لم يرد لهم ذكر في أي موضع من مواضع الكتاب.
- يقول الدكتور علي نفيع العلياني في كتابه: “عقيدة الإمام ابن قتيبة” عن كتاب الإمامة والسياسة: “بعد قراءتي لكتاب الإمامة والسياسة قراءة فاحصة، ترجَّح عندي أن مؤلف الإمامة والسياسة رافضي”.
كتاب: “نهج البلاغة”:
وهو أيضًا من الكتب التي ساهمت في تشويه تاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الكتاب مطعون في سنده ومتنه، فقد جُمع بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأكثر من ثلاثة قرون، والشيعة ينسبونه إلى الشريف الرضي، ويقال: إن الكتاب جمع فيه المُختار والمأثور من أقوال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعلى كل حالٍ؛ فالعلماء الثقات قد ردُّوا هذا الكتاب، ورفضوه سندًا ومتنًا.
* قال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى: “وقد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل جمعه؟ أم جمعه أخيه الرضي؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام عليّ، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه”([3]).
* قال الذهبي رحمه الله: “مَن طالع نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه، ففيه السبّ الصُّراح، والحط على السيدين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي مَن له معرفة بنَفَس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممّن بعدهم مِن المتأخرين جزم بأنّ أكثره باطل”([4]).
وقال ابن تيمية رحمه الله: “وأهل العلم يعلمون أن أكثر خطب هذا الكتاب مفتراة على علي؛ ولهذا لا يوجد غالبها في كتاب متقدم، ولا لها إسناد معروف”([5]).
* وأما ابن حجر رحمه الله، فيتّهم الشريف المرتضى بوضعه، ويقول: “ومَن طالعه جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين عليّ، وأكثره باطل”([6]).
كتاب: “الأغاني للأصفهاني”([7]):
هذا الكتاب في الحقيقة لا يعتبر كتاب تاريخ؛ لأنه جمع بين الأخبار، والشعر والغناء، والسمر، ونحو ذلك؛ إلا أنه من الكتب التي ساهمت أيضًا في تشويه تاريخ صدر الإسلام؛ نظرًا لاحتوائه على كثيرٍ مِن الكذب والمعايب في حق آل البيت والصحابة رضي الله عنهم؛ لذا تصدَّى له العلماء.
* قال الحسن بن الحسين النوبختي: “كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس، كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف، ثم تكون كل رواياته منها”([8]).
* قال ابن الجوزي رحمه الله: “ومثله لا يوثق بروايته، يصّرح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهّون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومَن تأمَّل كتاب الأغاني؛ رأى كلَّ قبيحٍ ومنكر”([9]).
* قال الذهبي رحمه الله: “رأيت شيخنا تقّي الدين ابن تيميّة يضعّفه، ويتّهمه في نقله، ويستهْوِل ما يأتي به”([10]).
كتاب: “تاريخ اليعقوبي”:
وهو لأحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب بن واضح العباسي، مِن أهل بغداد، توفي عام 290هـ وهو مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية، حتى لُقب بالكاتب العباسي، وقد استعرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه كما يعتقد الشيعة، ومِن ثَمَّ لم يعترف بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وأكثر في كتابه من الطعن والسب والتشويه حول كبار الصحابة: كأم المؤمنين عائشة وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم رضي الله عنهم.
وللأسف؛ فإن هذا الكتاب يعتبر من المراجع لكثيرٍ من المستشرقين والمنافقين، مع أنه كتاب ساقط لا قيمة له من الناحية العلمية؛ إذ إنه يفتقر لقواعد كتابة التاريخ، وضوابط البحث العلمي، حيث إنه قد ملئ بالقصص والخرافات.
كتاب: “مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي:
المسعودي هو: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، من ولد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه([11])، توفي سنة 345 هـ. قيل: إنه كان من أهل المغرب، والصحيح أنه من أهل العراق.
والمسعودي رجل شيعي، فقد قال فيه ابن حجر: “كتبه طافحة بأنه كان شيعيًّا معتزليًّا”([12])، وقد أطال المسعودي النَّفَس في كتابه عند ذكر الأحداث المتعلقة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أكثر من اهتمامه بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وركَّز اهتمامه بالبيت العلوي، وتتبع أخبارهم بشكلٍ واضحٍ لكل مَن يتصفح الكتاب.
وبهذا نكون قد استعرضنا سريعًا في هذا المقال أهم الكتب التي يجب الحذر منها؛ لا سيما وقد رأينا أن بعض الكتَّاب والمؤلفين المحدثين يعتمدون مثل هذه الكتب: كطه حسين، والعقاد، وغيرهما؛ لذا كان لابد من الإشارة إليها وتسليط الضوء عليها، وإعطاء نبذة مختصرة عن منهج مؤلفيها، وذلك قبل أن نشرع بمشيئة الله تعالى في الحديث عن نفض الغبار عن تاريخ الأخيار.
([1]) للمزيد راجع: كتاب الإمامة والسياسة في ميزان التحقيق العلمي، د. عبد الله عبد الرحيم عسيلان، وكتاب عقيدة الإمام ابن قتيبة، علي نفيع العلياني، والدولة الأموية للصلابي.
([7]) للمزيد راجع: “السيف اليماني في نحر الأصفهاني” للأعظمي.
([10]) ميزان الاعتدال (3/ 123).
([11]) الفهرست لابن النديم (ص 171).