مقالات تاريخية

د. زين العابدين كامل يكتب: دروس وعبر من قصة السموأل اليهودي

بقلم/ د. زين العابدين كامل

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.

لا شك أن التُّرَاثِ العربي حوى كثيرًا من القصص النافعة، ومن هذه القصص قصة السموأل التي ذكرها غير واحد من المؤرخين([1]).

والسَّمَوْأل هو رجل من اليهود، ضرب به العرب المثل في الأمانة، وملخص القصة أنه عندما  أراد امْرُؤُ القيس بن حجر الكندي الذهاب إلى قيصر ملك الروم،  أودع عند السموأل بن عادياء اليهودي دروعًا وسلاحًا وأمتعةً تساوي كثيرًا من المال، وقد ذُكر أن تلك الأسلحة والدروع كانت ملوك كندة يتوارثونها ملكاً عن ملك.

ثم قدر الله تعالى أن يموت امْرُؤُ القيس، وبقيت الأمانة عند السموأل، ثم علم السموأل بموت امْرِئِ القيس بن حجر الكندي، فحفظ الأمانة عنده.

وبلغ الحارث بن أبى شمر الغسّانّى، ما أودعه امرؤ القيس عند السموأل، فبعث إليه رجلًا من أهل بيته، يقال له: “الحارث بن مالك”، وأمره أن يأخذ من السموأل أمتعة امرئ القيس و سلاحه ودروعه، فلمّا انتهى إلى حصن السموأل أبى السموأل أن يسلمه شيئًا ، وأغلق حصنه.

 وكان للسموأل ابنٌ خارج الحصن يتصيّد، فأمسكه الحارث، وقال للسموأل: إما أن تدفع إليَّ  أمتعة امرئ القيس و سلاحه ودروعه وإلَّا قتلت ولدك.

فقال السموأل: أجِّلني، فأجَّله الحارث، ثم جمع السموأل أهل بيته وشاورهم في الأمر، وأجمع الحضور على ضرورة تسليم أمانة السموأل، مقابل انقاذ ولده،

فلما أصبح أشرف السموأل من حصنه فقال: ليس إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع بولدي، فلن أدفع إليك شيئًا، وبالفعل ذُبح ولده أمام عينيه.

ثم دفع السموأل ما عنده من السلاح والمتاع  إلى  ورثة امرئ القيس و عصبته وأدَّى الأمانة التي كانت عنده!

ولذا ضربت العربُ المثلَ بالسموألِ فى الوفاءِ فيقولون: ” أوفى من السَّموأل “.

وقد أكثر شعراء العرب من مدحهم للسموأل في شعرهم،

ومع أن القصة لرجل من اليهود إلا أن فيها فوائد ودروس وعبر. 

ومنها؛  أن ما وقع من السموأل هو مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾.

 ومع أن الغالب على اليهود خيانة الأمانة، إلا أن الله تعالى استثنى قليلًا منهم، ولم يستخدم في السياق أسلوب التعميم.

ومن الفوائد أيضًا، أن المسلم مطالب بشهادة الحق ولو كان مع غير المسلمين، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾

ومن أهم الدروس وأعظمها، أن المسلمين أولى من غير بحفظ الأمانة، كما قال تعالى في وصف أهل الإيمان ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ وقال ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ ولقد اتصف النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره بالصدق والأمانة ولقب بين قومه  بالصادق الأمين ، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ : مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ قَالَ:”لاَ إِيمَانَ لِمَنْ لاَ أَمَانَةَ لَهُ ، وَلاَ دِينَ لِمَنْ لاَ عَهْدَ لَهُ”.    ( أخرجه أحمد وصححه الألباني ) وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:” أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ ، فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ”.( أخرجه أحمد وصححه الألباني ) ولقد كانت من آخر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، الوصية بالأمانة فقال : ” وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا – وَبَسَطَ يَدَيْهِ فَقَالَ – أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ – ثُمَّ قَالَ – لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَإِنَّهُ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَسْعَدُ مِنْ سَامِعٍ” . ( أخرجه أحمد والدرامي و أبو داود )

ومن علامات الساعة عند فساد الزمان نزع الأمانة من قلوب الرجال ، فعَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ ، قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا ، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ ، حَدَّثَنَا:أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ ، قَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِن قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ ، فَنَفِطَ ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا ، وَلَيْسَ فَيهِ شَيْءٌ – ثُمَّ أخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ- فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ ، لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ ، حَتَّى يُقَالَ : إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا( متفق عليه) وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ:”أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ ، حَتَّى يَدَعَهَا : إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ” ( متفق عليه) والنصوص حول هذا المعنى كثيرة جدًا، وأرى أن فيما ذكرنا كفاية.

فوجب علينا أن نحفظ الأمانة وأن نتحلى فيها في معاملاتنا بيننا وبين الناس، فلسنا أقل من السموأل، وذلك بلا شك مع اعتبار الترجيح بين المصالح والمفاسد، وقاعدة القدرة والعجز. والله المستعان…

——


([1])  ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء، وابن خلدون:ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر، و جواد علي: المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

grandpashabet
grandpashabet
Grandpashabet
Grandpashabet
hacklink