خلافة عبد الله بن الزبير (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فمن المعروف أن الحقبة التاريخية التي تولى فيها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قد اتصفت بالتوتر وعدم الاستقرار، وذلك لما وقع بينه وبين بني أمية من خلاف وشقاق، وقد استمر الخلاف لعدة سنوات، بداية من بيعة ابن الزبير عام 64هـ، وحتى وفاته عام 73هـ.
بداية الخلاف:
وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد بن معاوية، وكان من المعترضين على أخذ البيعة ليزيد في عصر معاوية رضي الله عنه، واختار الذهاب والاستقرار بمكة، وكان معاوية رضى الله عنه على معرفة بطبيعة ابن الزبير وأنه لن يبايع ليزيد، و قد طلب ابن الزبير من معاوية أن يتنحى عن الإمارة إن كان ملّها، ثم طلب من معاوية أن يضع يزيد خليفة بدلاً منه فيبايعه، ثم استدل على عدم موافقته على المبايعة بما استنبطه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجوز مبايعة اثنين في آن واحد ([1]) ثم قال: وأنت يا معاوية أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان في الأرض خليفتان فاقتلوا أحدهما، وقد قال معاوية فى وصيته ليزيد، “وأما ابن الزبير فإنه خب([2]) ضب، فإذا شخص لك فألبد له([3])، إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت، “([4]). وكان مقصد ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، وكان ابن الزبير رضي الله عنه يرى أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة، ولهذا لم يدع لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية ([5])، وكان ابن الزبير يخطب ويقول: والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا ألتمس جمع مال ولا إدخاره، ثم أن ابن الزبير يرى فى نفسه أنه أهل لمنصب الخلافة بعد وفاة معاوية، لما يتمتع به من بعض الخصائص والصفات، إضافة لنسبه الكريم، حيث أبوه الزبير ابن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت أبى بكر ذات النطاقين رضى الله عنها، وجده من جهة أمه أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهو أول مولود يولد للمسلمين بعد الهجرة، وارتجت المدينة بالتكبير عند مولده ([6])، وكان معاوية رضى الله عنه يعرف قدر ابن الزبير ومكانته وكان يحترمه ويقدره، وقد أدرك ابن الزبير مكانة معاوية وحلمه ولينه، وكيف كان معاوية يقابل شدتهم باللين وقسوتهم بالرفق، وكان ابْنُ الزُّبَيْرِ يقول بعد وفاة معاوية: للَّهِ دَرُّ مُعَاوِيَةَ إِنْ كَانَ لَيَتَخَادَعُ لَنَا وَإِنَّهُ لأَدْهَى الْعَرَبِ، مَعَ حِلْمٍ لا يُنَادَى وَلِيدُهُ، وَإِنْ كَانَ لَيَتَضَاعَفُ لَنَا وَهُوَ أَنْجَدُ الْعَرَبِ ([7])، وعندما سمع ابن الزبير بمقتل الحسين رضي الله عنه قام خطيباً في مكة وترحم على الحسين وذم قاتليه، ونظراً للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير ([8]).
ولاحظ ابن الزبير مشاعر السخط والغضب التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين رضي الله عنه، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية ، و لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً يترتب عليه أن يشتد النزاع والخلاف مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره من الفتنة والسعي فيها، ويطلب منه أن يبايع، ويدخل فيما دخل فيه الناس، فلم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته، وجعل يطعن في يزيد وينتقص منه، وقال ابن الزبير: اللهم إني عائذ ببيتك، ولقب نفسه عائذ الله ، وكان يسمى العائذ([9]). وهنا أقسم يزيد على أنه لن يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مقيدًا ومسلسلًا.
التدابير التى اتخذها يزيد ضد ابن الزبير:
حملة عمرو بن الزبير([10]) :
لقد علم ابن الزبير أن رفضه لمطالب يزيد وبسط لسانه وتنقصه والنيل منه، سيعقبه شدة وقسوة من يزيد، ولذا قام ابن الزبير بجمع مواليه ومن وافقه من أهل مكة وغيرهم وكان يقال لهم الزبيرية، وهنا رأى يزيد أنه لابد من القيام بعمل عسكري، يكون الهدف منه القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لأوامره، ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة عام 61هـ، حج ابن الزبير معه، فلم يصل بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته، وهذا العمل من ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة الدولة، وعدم الاعتراف بها، وخصوصاً أن إقامة الحج تمثل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائب لعمرو بن سعيد على أهل مكة، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة،
وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمت ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولا بد من مشاركة الناس وكان يدعو إلى الشورى، ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يذكر، فخلال سنتين أو أكثر من معارضته ليزيد لم يحدث أي تغير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز، فضلاً عن غيره من الأقطار، ولقد ارتكب يزيد خطأً فادحاً عندما أقسم على أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة،- أي يأتيه مكبلًا- فكيف يعقل من صحابي جليل تجاوز الستين من عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية، ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط ليس أهلاً لولاية المسلمين.
وقد وقع يزيد في بعض الأخطاء التي أفقدته تأييد أهل الحجاز، ثم سياسة أمير المدينة ، عمرو بن سعيد بن العاص، حيث كان شديداً على أهل المدينة معرضاً على نصحهم متكبراً عليهم ([11])، ثم ما وقع فيه عمرو بن الزبير الذي تذكره الروايات أيضاً بأنه: عظيم الكبر شديد العجب، ظلوماً قد أساء السيرة، حيث كان يعاقب من علم عنه التأييد والميل إلى أخيه ابن الزبير، فكان يضربهم بالسياط.
ومن الأخطاء التي ارتكبها يزيد واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه؛ غزو مكة بجيش يقوده عمرو بن الزبير، فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقى المنبر في أول يوم من ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم ([12]). ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه وذكّروه بحرمة الكعبة وبحديث رسول الله صلى اله عليه وسلم في بيان حرمتها ولكنه رفض السماع لنصحهم ([13])، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد من غزو البيت وقال له: لا تغزو مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني([14]).
وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقباً مؤثراً حين أطلق على نفسه (العائذ بالله) فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون، وكان لا بد من الدفاع عن مكة، في وجه جيش يريد استحلال حرمتها، وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفاً مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله، وتدافع الناس نحو ابن الزبير من نواحي الطائف يعاونونه ويدافعون عن الحرم ([15]).
وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز، الأمر الذي جعله يحقق نصراً ساحقاً وسهلاً على جيش عمرو بن الزبير والذي كان قوامه ألف رجل.
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
- () ابن خياط :تاريخ خليفة بن خياط صـ214 وأبو نعيم : حلية الأولياء، بإسناد حسن، (1/ 330، 331) .وقد علق محب الدين الخطيب على هذا فقال : ابن الزبير أذكى من أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معا في حياة معاوية. ↑
- () الخب، الخداع، لسان العرب (1/341) ↑
- () أى تعامل معه بحزم وحرص و انظر هامش ص 199. ↑
- () الطبري: تاريخ الرسل والملوك (5/523) . ↑
- () ابن سعد:الطبقات (5/ 147) . ↑
- () وهو من فقهاء الصحابة وأحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وكان فارس قريش في زمانه وله مواقف مشهودة، شهد اليرموك وهو شاب وفتح المغرب وغزو القسطنطينية. كان لا ينازع في ثلاثة: شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة. عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مصليا قط أحسن صلاة من عبد الله ابن الزبير. وعن مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود. وقال ابن أبي مليكة قال لي عمر بن عبد العزيز: إن في قلبك من ابن الزبير قلت: لو رأيته ما رأيت مناجيا ولا مصليا مثله. وقال ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك. وعن مجاهد: ما كان باب من العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير.وقال عنه ابن عباس، أَمَّا أَبُوهُ: فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، يُرِيدُ: الزُّبَيْرَ، وَأَمَّا جَدُّهُ: فَصَاحِبُ الْغَارِ، يُرِيدُ: أَبَا بَكْرٍ، وَأُمُّهُ: فَذَاتُ النِّطَاقِ، يُرِيدُ: أَسْمَاءَ، وَأَمَّا خَالَتُهُ: فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ: عَائِشَةَ، وَأَمَّا عَمَّتُهُ: فَزَوْجُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -، يُرِيدُ: خَدِيجَةَ، وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم -: فَجَدَّتُهُ، يُرِيدُ: صَفِيَّة، ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الإسْلاَمِ، قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ، انظر:البخارى مع الفتح (8/177) وأبو نعيم :حلية الأولياء(1/333) والحاكم، المستدرك (3/555) . ↑
- () البلاذرى: أنساب الأشراف (4/95) . ↑
- () البلاذرى: المصدر نفسه (4/304) . ↑
- () الطبري: تاريخ الرسل والملوك (5/494) . ↑
- () وكان عمرو بن الزبير – أخا عبد الله بن الزبير – من أشد الناس عداوة له، وكان بنو أمية يكرمونه، فدعاه عمرو بن سعيد فعقد له عقدًا وضم إليه جيشاً كثيفاً ووجه به لمحاربة أخيه عبد الله بن الزبير، واقتتلا وكان عمرو فيمن أسر يومذاك فقال له عبد الله: قبحك الله من أخ وذي رحم. ↑
- () الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي الأسدي المكي (المتوفى: 256هـ) الأخبار الموفقيات للزبير بن بكار، تحقيق: سامي مكي العاني، الناشر: عالم الكتب – بيروت، الطبعة: الثانية، 1416هـ-1996م ص 152. ↑
- () ابن خياط :تاريخ خليفة صـ.233 ↑
- () البلاذرى: المصدر السابق، (4/ 313) . ↑
- () ابن كثير:البداية والنهاية (9/151) . ↑
- () البلاذرى: أنساب الأشراف، (4/ 313) . ↑