بقلم/ د. زين العابدين كامل
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فقد حوت كتب التاريخ والتراجم بعض الشخصيات التي تحار فيها العقول، ولا تدري أهذه الشخصيات المعروفة بخفة العقل والجنون، أهي شخصيات حقيقية، أم عبارة عن خرافة واسطورة؟ وهل كانت حقًا تعاني من خفة العقل؟ أم كانت من أعقل العقلاء؟
ومن أشهر هذه الشخصيات؛ شخصية بهلول بن عمرو، والذي عده كثير من المؤرخين من أعقل المجانين، بل هو من الشخصيات التي تأثر بكلامها هارون الرشيد رحمه الله.
وبهلول قد ترجم له عدد من المصنفين، منهم الذهبي رحمه الله تعالى في تاريخ الإسلام؛ حيث قال: “هُوَ الْبُهْلُولُ بْنُ عَمْرٍو، أَبُو وُهَيْبٍ الصَّيْرَفِيُّ الْكُوفِيُّ، وُسْوِسَ فِي عَقْلِهِ، وَمَا أَظُنُّهُ اخْتَلَطَ، أَوْ قَدْ كَانَ يَصْحُو فِي وَقْتٍ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي عُقَلاءِ الْمَجَانِينِ، لَهُ كَلامٌ حَسَنٌ، وَحِكَايَاتٌ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ: عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، وَأَيْمَنَ بْنِ نَابُلٍ، وَمَا تَعَرَّضُوا لَهُ بِجَرْحٍ وَلا تَعْدِيلٍ، وَلا كَتَبَ عَنْهُ الطَّلَبَةُ”.
كَانَ حَيًّا فِي دَوْلَةِ الرَّشِيدِ، طَوَّلَ تَرْجَمَتَهُ ابْنُ النَّجَّارِ([1])، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَتَى بَغْدَادَ.
وَعَنِ الأَصْمَعِيِّ قَالَ: “خَرَجْتُ مِنْ عِنْدَ الرَّشِيدِ مِنْ بَابِ الرُّصَافَةِ، فَإِذَا بُهْلُولُ يَأْكُلُ خَبِيصًا، فَقُلْتُ: أَطْعِمْنِي. قَالَ: لَيْسَ هُوَ لِي. قُلْتُ: لِمَنْ هُوَ؟ قَالَ: لِحَمْدُونَةَ بِنْتِ الرَّشِيدِ أَعْطَتْنِيهِ آكُلُهُ لَهَا([2]).
وَعَنِ الأَشْهَلِيِّ قَالَ: بَكَّرْتُ فِي حَاجَةٍ، فَلَقِيتُ الْبُهْلُولَ، فَقُلْتُ: ادْعُ لِي. فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: يَا مَنْ لا تُخْتَزَلُ الْحَوَائِجُ دُونَهُ، اقْضِ لَهُ حَوَائِجَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَوَجَدْتُ لِدُعَائِهِ رَاحَةً. فَنَاوَلْتُهُ دِرْهَمَيْنِ، فَقَالَ لِي: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، تَعْلَمُ أَنِّي آخُذُ الرَّغِيفَ وَنَحْوَهُ؟ لا وَاللَّهِ، لا آخُذُ عَلَى دُعَائِي أَجْرًا، قَالَ: فَقُضِيَتْ حَاجَتِي([3]).
وَيُرْوَى أَنَّ الْبُهْلُولَ مَرَّ بِهِ الرَّشِيدُ، فَقَامَ وَنَادَاهُ وَوَعَظَهُ، فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ، فَقَالَ: مَا كُنْتُ لأسوّد وجه الموعظة([4]).
قال ابن الجوزي: وكان بهلول يأوي المقابر.
يذكر أبو القاسم النيسابوري في كتابه: عقلاء المجانين، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم؛ عن الْفَضْلِ بْنِ الرَّبِيعِ الْحَاجِبِ قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ الرَّشِيدِ فَمَرَرْنَا بِالْكُوفَةِ فَإِذَا بُهْلُولٌ الْمَجْنُونُ يَهْذِي، فَقُلْتُ: اسْكُتْ فَقَدْ أَقْبَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَكَتَ، فمر عليه الرشيد وقال: السلام عليك يا بهلول، فقال وعليك السلام يا أمير المؤمنين، قال كنت إليك بالأشواق، قال لكني لم أشتق إليك ،فقال عظني، فقال هذه قصورهم وهذه قبورهم، فقال زدني يَا بُهْلُولُ فَقَالَ:
هب أَنْ قَدْ مَلَكْتَ الْأَرْضَ طُرًّا * وَدَانَ لَكَ الْعِبَادُ فَكَانَ مَاذَا
أَلَيْسَ غَدًا مُصِيرُكَ جَوْفَ قبر * ويحثو عليك التراب هَذَا ثُمَّ هَذَا
قَالَ: أَجَدْتَ يَا بُهْلُولُ، أَفَغَيْرُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! مَنْ رزقه الله مالاً وجمالاً، فَعَفَّ فِي جَمَالِهِ، وَوَاسَى فِي مَالِهِ، كُتِبَ في ديوان الله من الْأَبْرَارِ.
قَالَ: فَظَنَّ أَنَّهُ يُرِيدُ شَيْئًا، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِقَضَاءِ دَيْنِكَ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَقْضِ دَيْنًا بِدَيْنٍ، ارْدُدِ الْحَقَّ إِلَى أَهْلِهِ، وَاقْضِ دَيْنَ نَفْسِكَ مِنْ نَفْسِكَ، قَالَ: إِنَّا أَمَرْنَا أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْكَ رِزْقٌ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَا يُعْطِيكَ وَيَنْسَانِي، وَلَا حَاجَةَ لِي فِي جِرَايَتِكَ، قال: هذه ألف دينار خذها، فقال: ارددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها؟ انصرف عني فقد آذيتني، قال: فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا.
رآه رجل وهو يلعب في التراب في المقابر، فقال له ما تصنع ها هنا؟ فقال أجالس أقواماً لا يؤذونني ولو غبت عنهم لا يغتابونني.
قال بعض أهل الكوفة، ولد لبعض أمراء الكوفة ابنة فساءه ذلك، فاحتجب وامتنع من الطعام والشراب، فأتى بهلول حاجبه فقال إئذن لي على الأمير، هذا وقت دخولي عليه، فلما وقف بين يديه قال: أيها الأمير ما هذا الحزن، أجزعت لذات سوى هيأته رب العالمين، أيسرك أن لك مكانها ابنًا مثلي؟ قال: ويحك فرجت عني فدعا بالطعام وأذن للناس.
قال عبد الواحد بن زيد مر بهلول برجل قد وقف على جدار رجل يكلم امرأته، فأنشأ يقول:
كن حبيباً إذا خلوت بذنب … دون ذي العرش من حكيم مجيد؟
أتهاونت بالإله بديا … وتواريت عن عيون العبيد
أقرأت القرآن أم لست تدري … أنّ ذا العرش دون حبل الوريد
ثم ولى وهو يقول من نوقش في الحساب غفر له، فقلت له من نوقش الحساب عذب، فقال اسكت يا بطال إن الكريم إذا قدر غفر([5]).
([1]) له ذيل تاريخ بغداد ولم يصلنا منه سوى قسم من تراجم حرف العين.
([2]) الصفدي: الوافي بالوفيات( 10/ 309)، محمد بن شاكر: وفوات الوفيات( 1/ 229)، والخبر أيضا في: العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي.
([3]) ابن حبيب:أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري: عقلاء المجانين، ص139- 160.
([4]) الذهبي: تاريخ الإسلام (12/89).
([5]) ابن حبيب: عقلاء المجانين ص71.