مقالات تاريخية

د. زين العابدين يكتب: مدينة القيروان وعبق التاريخ

تاريخ مدينة القيروان

 بقلم د. زين العابدين كامل

لقد تأثرت حركة الفتوحات الإسلامية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، بل إن حركة الفتوحات قد توقفت بالفعل في أواخر عصر عثمان ؛ وذلك بسبب كثرة التوترات السياسية الداخلية والتي انتهت بمقتل أمير المؤمنين عثمان، ثم لما تولى الأمر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ازدادت وتيرة التوترات، والتي أدَّت إلى وقوع القتال بين المسلمين في موقعتي: الجمل وصفين[1].

وقد عادت حركة الفتوحات بعد استقرار الأوضاع بتنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم، وقد شملت حركة الفتوحات في العصر الأموي ثلاث جبهات برية، وهي: جبهة شمال إفريقية والأندلس، وجبهة ما وراء النهر، وجبهة السند على الحدود الجنوبية الشرقية. وبذلك تكون الدولة الأموية قد حَرَصَت كلَّ الحرص على نشر الإسلام في جميع الاتجاهات.

ولما استقر الأمر لمعاوية رضي الله عنه،عمل على استكمال حركة الفتوحات في الشمال الإفريقي؛ لما يمثله من أهمية بالغة، حيث حدود مصر الغربية من ناحية، ومن ناحية أخرى فهي تخضع لنفوذ الدولة البيزنطية؛ العدو اللدود للمسلمين، والتي صمم أمير المؤمنين معاوية على تضييق الخناق عليها، وبالفعل أرسل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان عام 41هـ الصحابي معاوية بن حديج الكندي [2]، على رأس حملة إلى إفريقية ثم أرسله على رأس حملة ثانية عام 45هـ، وذلك في عشرة آلاف مقاتل، فمضى حتى دخل إفريقية، وكان معه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، ويحيى بن الحكم ابن العاص، وغيرهم من أشراف قريش، فبعث ملك الروم إلى إفريقية بِطْريقًا يقال له: «نقفور» في ثلاثين ألف مقاتل، فنـزل الساحل، فأخرج إليه معاوية بن حديج عبد الله بن الزبير في خيلٍ كثيفةٍ، فسار حتى نـزل على شرف عال ينظر منه إلى البحر، بينه وبين مدينة سوسة[3] اثنا عشر ميلاً[4].

فلما بلغ ذلك نقفورًا عاد وفرَّ في البحر منهزمًا من غير قتال، ورجع عبد الله بن الزبير إلى معاوية بن حديج، ثم أرسل ابن حديج عبد الملك بن مروان في ألف فارس إلى مدينة جلولاء[5]، فحاصرها وقتل من أهلها عددًا كثيرًا حتى فتحها عنوة، وأرسل معاوية بن حديج جيشًا في البحر إلى صقلية في مائتي مركب، فسبوا وغنموا وأقاموا شهرًا، ثم انصرفوا إلى إفريقية بغنائم كثيرة[6].

عقبة بن نافع وفتح إفريقية:

بعد هذا النشاط السابق في الشمال الإفريقي زاد اهتمام معاوية بن أبي سفيان بالفتوحات في إفريقية، وهنا أسند مهمة القيادة لأحد أبرز القادة والفاتحين، وهو: عقبة بن نافع الفهري[7]، فلما أسند إليه معاوية بن أبي سفيان قيادة الفتوحات في إفريقية، أرسل إليه عشرة آلاف فارس وانضم إليه مَن أسلم مِن البربر، فكثر الجيش حوله، وسار في جيشه حتى نـزل بمغمداش مِن سرت[8]، فبلغه أن أهل ودان[9] قد نقضوا عهدهم مع بسر بن أبي أرطأة الذي كان عقده معهم حين وجَّهه إليهم عمرو بن العاص، ومنعوا ما كانوا اتفقوا عليه من الجزية، فوجَّه إليهم عقبة كتيبة من الجيش بقيادة عمر بن علي القرشي، وزهير بن قيس البلوي.

ثم اتجه عقبة إلى فزان[10]، فلما دنا منها دعاهم إلى الإسلام فأجابوا[11]، ثم واصل فتوحاته، ففتح قصور كُوّار[12]، وخاور[13]، وغدامس[14]، وغيرها.                                                                                                       ومما يلاحظ: أن عقبة تجنَّب في طريق سيره المناطق الساحلية، فقصد المناطق الداخلية يفتحها بلدًا بلدًا، ويبدو أنه فعل ذلك ليأخذ البربر إلى جانبه ويقيم جبهة داخلية تحيط بالبيزنطيين على الساحل، وتمدُّه بالطاقات البشرية؛ للاستقرار والإطاحة بالوجود البيزنطي[15].

بناء مدينة القيروان:

كانت هناك فكرة قد عَزمَ عقبة على تنفيذها؛ ألا وهي بناء مدينة تكون قاعدة ثابتة للمسلمين، فيها يتمركزون ومنها ينطلقون، فهي مركز المسلمين الرئيسي ومحط رحالهم، وبهذا تبدأ إفريقية عهدًا جديدًا مع عقبة بن نافع، وهو القائد الفاتح المتمرس في شؤون إفريقية منذ حداثة سنِّه؛ فقد لاحظ كثرة ارتداد البربر، ونقضهم العهود؛ لذا كان لا بد من مدينة خاصة بالمسلمين، فجمع الناس وعرض عليهم الفكرة، وقال: «إن أفريقية إذا دخلها إمام أجابوه إلى الإسلام، فإذا خرج منها رجع مَن كان أجاب منهم لدين الله إلى الكفر؛ فأرى لكم يا معشر المسلمين: أن تتخذوا بها مدينة تكون عزًّا للإسلام إلى آخر الدهر».

فاتفق الناس على ذلك، وأن يكون أهلها مرابطين، وقالوا: «نقرب من البحر ليتم لنا الجهاد والرباط، فقال عقبة: إني أخاف أن يطرقها صاحب القسطنطينية بغتة فيملكها، ولكن اجعلوا بينها وبين البحر ما لا يدركه صاحب البحر إلا وقد عُلِم به، وإذا كان بينها وبين البحر ما يوجب فيه التقصير للصلاة فهم مرابطون»[16].

ومن هنا يتَّضِح: أن عقبة رجل مبدع، صاحب فكر صائب مستنير، يعيش عصره ويفكر في المستقبل، ولم يعجبه موضع القيروان الذي كان بناه معاوية بن حديج قبله، فسار والناس معه حتى أتى موضع القيروان اليوم[17]، وكان موضع تسكنه السباع والأفاعي، فدعا عليها، فلم يبقَ فيها شيء، وهربوا حتى إن الوحوش لتحمل أولادها.                                                                                                                                                               وعن يحي بن عبد الرحمن بن حاطب قال: «لما افْتتح عقبَة بْن نَافِع إفريقية وقف عَلَى القيروان فَقَالَ: يا أهل الوادي! إنا حالون إن شاء الله، فاظعنوا، أي: فارحلوا، ثلاث مرات، فما رأينا حجرًا ولا شجرًا إلا يخرج مِن تحته دابة حتى هبطن بطن الوادي، ثم قال للناس: انـزلوا باسم الله، وكان عقبة بن نافع مجاب الدعوة»[18].              وهذه بلا شك كرامة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد رأى أناس من البربر كيف أن الدواب تحمل أولادها وتخرج! فأسلموا.                                                                                                                           ثم شرع الناس في قطع الأشجار، وأمر عقبة ببناء المدينة عام 50هـ فبنيت، وبني المسجد الجامع، وبنى الناس مساجدهم ومساكنهم، وتم أمرها عام 55هـ، وسكنها الناس.                                                               ثم أصبحت القيروان مركزًا علميًّا حضاريًّا، ينطلق منها الدعاة ويرحل إليها طلاب العلم؛ فقد كان مع عقبة أثناء تأسيس القيروان ثمانية عشر صحابيًّا، وقد مكثوا فيها خمس سنوات كاملة، يعلِّمون الناس اللغة العربية، والقرآن والسنة في جامع القيروان، فعن غياث بن أبي شبيب، قال: «كان يمر بنا سفيان بن وهب[19] صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بالقيروان، ونحن غلمة، فيسلِّم علينا وهو معتم بعمامة قد أرخاها من خلفه».

وكانت القيروان كذلك هي الملتقى بين أهل المشرق والمغرب، فالموقع الجغرافي لمدينة القيروان كان له دور كبير في إثراء الحياة العلمية وإنعاشها، فقد كانت في موقع متوسط بين الشرق والغرب يمرُّ بها العلماء والطلبة من أهل المغرب والأندلس في ذهابهم إلى المشرق، فيسمعون من علمائها.                                      وكان عقبة في أثناء ذلك يغزو ويرسل السرايا، ودخل كثير من البربر الإسلام، هذا وقد تم تخطيط مدينة القيروان على النمط الإسلامي، فالمسجد الجامع ودار الإمارة توأمان، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما دائمًا إلى جوار بعضهما، ويكونان دائمًا في قلب المدينة التي يخطتها المسلمون ويرتكزان في وسطها[20]

ومما سبق يتضح: أنه كانت هناك دوافع سياسية وعسكرية وإدارية ودعوية خلف قرار عقبة في اتخاذ موقع القيروان، وبهذا أصبحت القيروان ولاية إسلامية جديدة وجزءًا لا يتجزأ من العالم الإسلامي الكبير، منها تنطلق البعثات العلمية والجيوش الفاتحة، كما أن القيروان اكتسبت نوعًا من الاحترام والتعظيم باعتبارها البلد الذي أسسه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويُذكر أنه بعد إعمار المدينة وَاجَه المسلمون مشكلة كبيرة جدًّا، وهي عدم وجود موارد مائية في المدينة، وهنا أمطرهم الله تعالى بالماء ونـزل عليهم الغيث، واعتمد المسلمون في مدينة القيروان على مياه الأمطار؛ لعدم وجود موارد مائية قريبة من المدينة.

وفي عصر خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، اهتم بمدينة القيروان، ولذا يقوم عام 99هـ، بإرسال عشرة من التابعين إلى مدينة القيروان، وهؤلاء كانوا بمثابة بعثة علمية إلى القيروان، ثم في عصر الأغالبة أسهمت مدينة القيروان في نشر المذهب المالكي في بلاد المغرب، وكذا في صقلية والأندلس.

ومن أشهر المعالم التاريخية الحضارية في مدينة القيروان: الجامع الذي بناه عقبة ، والذي تم تجديده في عصر الدولة الأموية على يد حسان بن النعمان، وفي عصر الخليفة هشام بن عبد الملك قام أيضًا بتوسعة وتشييد جامع القيروان، وكذلك اهتم الأمراء على مرِّ العصور بجامع عقبة.

ومن أهم المعالم التاريخية والحضارية في مدينة القيروان أيضًا: «بيت الحكمة»، وهو يعتبر أشهر وأقدم مكتبة في الشمال الأفريقي، فهي مكتبة جامعة للعلوم الإسلامية، وغيرها من أنواع العلوم المختلفة، وقد أقام بيت الحكمة الأغالبة، وكان بمثابة المركز العلمي والبحثي للدراسة والترجمة في مدينة القيروان.

وهكذا ظلَّت مدينة القيروان طوال التاريخ تتمتع بالتقدير والاحترام والتوقير من جميع المسلمين، فمدينة القيروان تاريخ وحضارة وتراث إسلامي.

 

[1] للاطلاع على تفاصيل أحداث الفتن السياسية، وأحداث موقعتي: الجمل وصفين، راجع كتابنا: «أحداث الفتن السياسية في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية».

 

[2] معاوية بن حديج الكندي: له صحبة ورواية قليلة عن النبي H، فقد روى حديث رسول الله H: «إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ شِفَاءٌ فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ كَيَّةٍ بِنَارٍ تُصِيبُ أَلَمًا، وَمَا أُحِبُّ أَنْ أَكْتَوِيَ» [أخرجه أحمد (27256)، بسند صحيح].

وكان I ملكًا مطاعًا من أشراف كندة، وكان من خيرة الأمراء، فعن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة، فقالت: «ممن أنت؟ قلتُ: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حُديج في غزاتكم هذه؟ قلت: خير أمير، ما يقف لرجل منا فرس ولا بعير إلا أبدل مكانه بعيرًا، ولا غلامًا إلا أبدل مكانه غلامًا، قالت: إنه لا يمنعني قتله أخي أن أُحدثكم ما سمعت من رسول الله H: «اللهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ» [رواه مسلم (1828)]. [سير أعلام النبلاء (3/37)].

[3]  سوسة: مدينة صغيرة بنواحي إفريقية، بينها وبين القيروان ستة وثلاثين ميلًا، ويحيط بها البحر من ثلاث جهات؛ من الشمال، والجنوب، والشرق. الحموي: معجم البلدان (3/282).

[4] الميل يساوي 1.6 كم تقريبًا.

[5]  هناك مدينتان تحملان هذا الاسم، إحداهما: بفارس، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ، وهي على طريق خراسان، وبها كانت الوقعة المشهورة بين المسلمين والفرس سنة 16هـ، وهذه التي بإفريقية، بينها وبين القيروان أربعة وعشرون ميلًا. ياقوت الحموي، معجم البلدان (2/156).

[6]   ابن عذاري المراكشي: أبو عبد الله محمد بن محمد (المتوفى: نحو 695هـ)، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1983م، عدد الأجزاء: 2 (1/16).

[7]()   هو عقبة بن نافع القرشي الفهري، نائب إفريقية لمعاوية وليزيد، وهو الذي أنشأ القيروان وأسكنها الناس، وكان ذا شجاعة، وحزم، وديانة، لم يصح له صحبة، شهد فتح مصر، وكان عقبة قد شارك في غزو إفريقية منذ البداية مع عمرو بن العاص واكتسب في هذا الميدان خبرات واسعة، وكان عمرو بن العاص قد خلفه على برقة عند عودته إلى الفسطاط، فظل فيها يدعو الناس إلى الإسلام، ابن الأثير، الكامل في التاريخ (2/483).

[8   سرت: مدينة بين برقة وطرابلس، الحموي: معجم البلدان (3/206).

[9]  ودان:جنوب إفريقية بينها وبين زويلة عشرة أيام من جهة إفريقية، الحموي: المصدر السابق (5/365، 366).

[10]  فزان: جنوب ليبيا ولاية واسعة، كانت عاصمتها: زويلة.

[11]  ابن عبد الحكم: عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، أبو القاسم المصري(المتوفى: 257هـ) فتوح مصر والمغرب، الناشر: مكتبة الثقافة الدينية، عام النشر: 1415هـ، (ص132).

[12]  إقليم ببلاد السودان الغربي جنوب فزان، الحموي: المصدر نفسه (4/486).

[13]  خاور: مدينة جنوب فزان.

[14]  غدامس: مدينة جنوب ليبيا قُرب الحدود الجزائرية.

[15]  عبد الشافي محمد عبد اللطيف، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص235)، وانظر: دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، لمؤلفه: محمد بطاينة (ص280).

[16]  ابن عذاري، البيان المغرب (1/19).

[17]  مدينة القيروان تبعد حوالي (150) كيلو تقريبًا عن تونس العاصمة.

[18] سير أعلام النبلاء (3/533).

[19]   وَفَد عسفيان بن وهب عَلَى النَّبِيّ H وحضر حجة الوداع، وشهد فتح مصر، وإِفريقية، وسكن المغرب، روى عنه أَبُو الخير مرثد بْن عَبْد اللهِ، وَأَبُو عشانة، ومسلم بْن يسار،
ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة (2/502).

[20]  محمد سيد الوكيل، الأمويون بين المشرق والغرب (1/72).

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى