مقالات تاريخية

د. زين العابدين كامل يكتب: تاريخ مدينة صنعاء

تاريخ مدينة صنعاء: بقلم د. زين العابدين كامل
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،                                             

الجذور التاريخية لمدينة صنعاء: 

تمثِّل مدينة صنعاء لَبِنَة عظيمة في صَرْح التراث والحضارة، فهي مدينة تتمتع بعمق تاريخي وحضاري. ويعود تاريخ مدينة صنعاء إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ولا شك أن صنعاء من أجمل مدن بلاد اليمن وأفخرها؛ ولذا كان حكام اليمن على مدى العصور المتعاقبة يتخذون من صنعاء عاصمة لبلاد اليمن.
وتقع صنعاء في قلب اليمن، وليست في أطرافها، وقد ذكر كثيرٌ من المؤرخين: أن أول مدينة بُنِيت في اليمن هي مدينة صنعاء، وذلك في عصر سام بن نوح عليه السلام.
وقد تعاقبت حضارات مختلفة على بلاد اليمن، مثل: الحضارة السبئية، وحضارة حِمير، وغيرهما؛ فلقد قامت حضارة دولة حِمير على أنقاض حضارة سبأ بعد انهيار سد مأرب العظيم، وحدوث سيل العرم الذي ورد ذكره في القرآن الكريم.
ومن أسمائها القديمة: سام، وأزال، نسبة إلى أشخاص بعينهم عاشوا بها، ومن أسمائها أيضًا: صنعُو، أي: صنعاء، وهو: الحصن الوثيق، أو القلعة الحصينة، أو المدينة الحصينة؛ لأنها كانت في البداية عبارة عن حصن يقع ضمن أرض همدان.
وقد استمرت صنعاء عاصمة لليمن منذ عهد الحبش وحتى عصرنا الحاضر، وفي عام 549م نصَّب أبرهة الأشرم نفسه حاكمًا عليها، وهو الذي أخذ في نشر الديانة النصرانية، وقد أراد أبرهة حاكم اليمن أن يجعلها عاصمة دينية؛ ولذا بنى بها الكنيسة المشهورة، وأراد أن يصرف الناس من حج بيت الله الحرام إلى مدينة صنعاء، ولا شك أن لهذا الأمر دلالة على أهمية صنعاء، وأنها كانت تلعب دورَا رائدًا على مرِّ العصور.

التبشير بفتح صنعاء:

صنعاء بشَّر بفتحها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن البراء بن عازب  قال: لما كان حين أمرنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بحَفْرِ الخَنْدَقِ عَرَضَتْ لنا في بعضِ الخَنْدَقِ صخرةٌ لا تأخذُ فيها المَعَاوِلَ، فاشتَكَيْنا ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ، فقال: «بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ، فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صَنْعَاءَ مِن مَكَاني هَذَا السَّاعَة»[1]، وبالفعل تحققت البشارة النبوية، فَفُتِحت بلاد الشام، وفتحت بلاد العراق، ودخل أهل اليمن في دين الإسلام.

دخول الإسلام بلاد اليمن:

خلال السنوات الأولى للنبي H في المدينة المنورة، كانت اليمن منقسمة بين قوى قَبَلية هي: حمير، وحضرموت، وكندة، وهَمْدان، وبين حُكْمٍ فارسي في صنعاء وعدن، وما حولهما، فضلًا عن النفوذ الروماني الحبشي بنجران، وهو الذي كان فيه نصارى نجران.
ومن الجدير بالذكر: أن أهل اليمن دخلوا الإسلام حبًّا في الإسلام، فأهل اليمن اعتنقوا الإسلام طواعية واختيارًا منهم لهذا الدين العظيم، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ  قَالَ: «لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ، أَرْسَلَ الرُّسُلَ إلى المُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إلى الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ إِلَيْهِمْ كُتُبًا وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ اللهِ بْنَ حُذَافَةَ السَّهْمِيَّ  إلى كِسْرَى يَدْعُوهُ إلى الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ: فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُرِئَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَمَزَّقَهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ مَزِّقْ مُلْكَهُ»، وَكَتَبَ كِسْرَى إلى بَاذَانَ عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَنِ أَنِ ابْعَثْ مِنْ عِنْدِكَ رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ إلى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بِالحِجَازِ فَلْيَأْتِيَانِي بِخَبَرِهِ، فَبَعَثَ بَاذَانُ قَهْرَمَانَهُ وَرَجُلًا آخَرَ، وَكَتَبَ مَعَهُمَا كِتَابًا، فَقَدِمَا المَدِينَةَ وَفَرَائِصُهُمَا تُرْعَدُ، فَدَفَعَا كِتَابَ بَاذَانَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُمَا إلى الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: «ارْجِعَا عَنِّي يَوْمَكُمَا هَذَا حَتَّى تَأْتِيَانِي الْغَدَ فَأُخْبِرَكُمَا بِمَا أُرِيدُ»، فَجَاءَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ لَهُمَا: «أَبْلِغَا صَاحِبَكُمَا أَنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّهُ كِسْرَى فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِسَبْعِ سَاعَاتٍ مَضَتْ مِنْهَا» -وَهِيَ لَيْلَةُ الثُّلاثَاءِ لِعَشْرِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ-، وَإِنَّ اللهَ عز وجل سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ، فَرَجَعَا إلى بَاذَانَ بِذَلِكَ، فَأَسْلَمَ هو وَالْأَبْنَاءُ الَّذِينَ بِالْيَمَنِ»[2].
وهكذا علم أهل اليمن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تأكَّدوا من خبر مقتل كسرى كما أخبرهم رسول الله .
وقد لعب بعض الصحابة دورًا بارزًا في نشر الإسلام في بلاد اليمن، فلقد أسلم بعض الصحابة وهم مِن قبائلَ مختلفة ببلاد اليمن وما جاورها: كأبي موسى الأشعريِّ في الأشاعرة، والطفيل بن عمرو في دَوْس، وقيس بن نمط الهَمْدَاني في هَمْدَان، فأخذوا يَنْشَطون للدَّعوة في قبائلهم، وأما نصارى نجران فقد رفضوا دعوة الإسلام.
وأما قبيلة حِمير: وهي مِن أعظم القوى القَبَلِية في اليمن فقد أرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من رسول، كان أوَّلهم المهاجر بن أبي أمية في عام 7هـ، وقد جاء بالبشرى بإسلام ملوك حمير وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضًا مُعَاذ بن جبل إلى اليمن في أواخر عام 9هـ؛ وهكذا لعب بعض الصحابة دورًا كبيرًا في نشر الإسلام في بلاد اليمن، ولقد جاءت الوفود والقبائل ودخلت في دين الإسلام، وانتشر الإسلام وسط كِنْدَة، وإقليم حضرموت، وتِهَامة اليمن، فيكفي أهل صنعاء ويكفي أهل اليمن شرفًا أنهم بادروا بالدخول في دين الله F.

الردة بين بعض قبائل اليمن:

في الحقيقة لم تكن صنعاء بعيدة عن الأحداث في عصر الخلافة الراشدة، أو في عصر الخلافة الأموية.
ففي العام العاشر الهجري، أي: في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ظهرت فتنة في أرض اليمن، وهي ظهور حركة عبهلة بن كعب الذي عُرِف بالأسود العَنْسِيِّ، وهو الذي ادَّعى النبوة، وادَّعى أن الوحي ينـزل عليه، ولقَّب نفسه برحمان اليمن!
 وللأسف تبعه خلق كثير بسبب العصبية القبلية، واستطاع أن يستولي على نجران، وبعد أن استولى على نجران أراد أن يدخل صنعاء، وهنا رفض أهل صنعاء الانحراف المنهجي والعقدي والفكري، فرفضوا دعوته وادعاءه للنبوة، وثبت أهل صنعاء على الإسلام، ودخلوا في قتالٍ أمام العنسي؛ إلا أنه استطاع في النهاية أن يدخل مدينة صنعاء وأن يسيطر عليها.
ثم تجمع المؤمنون المخلصون من أهل اليمن، واستطاعوا أن يقتلوا العنسي بمساعدة زوجته، وكانت امرأة مؤمنة، وقد عَاصَر هذه الأحداث معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري ، واستقر الوضع الداخلي في اليمن بعد مقتل الأسود العنسي، وتراضى المسلمون على معاذ بن جبل ، فصلَّى بهم في صنعاء.
ثم في خلافة عثمان بن عفان ، خرج رجل يهودي أفسد على المسلمين دينهم، وادَّعى أنه أسلم، وتسبب في مقتل أمير المؤمنين عثمان ، وهو
عبد الله بن سبأ، ثم في خلافة علي بن أبي طالب وحدوث الخلاف بينه وبين معاوية ، لم تكن اليمن بعيدة عن الأحداث، فلقد شاركت قبيلة همدان المتمركزة في أطراف اليمن في موقعة صفين، وكانت تقاتل في صفِّ علي بن أبي طالب، ثم في العصر الأموي ومع كثرة الثورات والتوترات السياسية، والأحداث المتلاحقة: كمقتل الحسين ، وموقعة الحرة، والخلاف بين عبد الله ابن الزبير وبني أمية، خرج من صنعاء مَن أيَّد ابن الزبير، ثم حاول الخوارج في ظل تلك التوترات أن يسيطروا على صنعاء؛ لما تمثله من أهمية بالغة، وذلك في نهاية العصر الأموي، ولكن صنعاء ثبتت في النهاية على منهج أهل السنة وقاومت الفكر الخارجي المنحرف.
ثم في العصر العباسي ظلت صنعاء هي حاضرة اليمن، ورغم بعدها عن بغداد مركز الخلافة العباسية؛ إلا أنها لم تكن بمعزلٍ عن السياسة العامة للدولة العباسية، فكانت تتأثر بما يجري من أحداث.
وقد أدرك خلفاء بني العباس أهمية صنعاء؛ ولذا كانوا يتخيرون ولاتها، وكانوا يختارون ولاتها من أصول يمنية، للحفاظ على استقرار اليمن وصنعاء.
وهكذا ظلت صنعاء تحتفظ بمكانتها على مرِّ العصور المختلفة منذ أن أسلم أهلها في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على بلاد اليمن بصفةٍ عامة، ولا شك أن مدينة صنعاء هي جزء أصيل من بلاد اليمن، بل هي قلب اليمن؛ ولذا يشملها ثناء النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة  قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَتاكُمْ أهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أرَقُّ أفْئِدَةً وأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ»[3].
وهكذا مَدحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم  أهلَ اليَمنِ؛ لِمُسارعتِهِم إلى الدَّعوَةِ ومُبادرتِهِم إلى قَبول الإيمان، فإنَّهمُ استَجابوا لِلإسلامِ بِدونِ مُحاربة -كما ذكرنا-، ثُمَّ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ يَمانٍ والحِكْمَةُ يَمانِيَةٌ»، أي: أنَّ الإيمانَ والحِكمةَ تُنسَبُ إلى أهلِ اليَمنِ لِانقيادِهِم إلى الإيمانِ مِن غَيرِ تَكلُّف بل وتحدَّث ربنا عز وجل في القرآن عن قبيلة سبأ التي كانت تسكن في اليمن، فقال الله تعالى: ﴿‌بَلْدَةٌ ‌طَيِّبَةٌ ‌وَرَبٌّ ‌غَفُورٌ﴾ [سبأ: 15]، وبعض الآثار تشير إلى أن تُبَّعًا اليمني هو أول مَن كسا الكعبة المشرفة، وأن أهل اليمن هم أول مَن أجابوا دعوة إبراهيم عليه السلام حين أذَّن في الناس بالحج إلى بيت الله الحرام.
هذه هي صنعاء التاريخ…
صنعاء الحضارة…
صنعاء التراث…
صنعاء في قلوب المسلمين[4].
[1]   أخرجه أحمد (18694)، وحسنه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري».
[2]   أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/258-260)، وصححه الألباني.
[3]  رواه البخاري (4388)، ومسلم (52).
[4]  للمزيد راجع: تاريخ مدينة صنعاء، لأبي بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي، وتاريخ صنعاء منذ فجر الإسلام وحتى أواخر القرن الرابع الهجري، طارق أبو الوفا محمد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى