منهجية التغيير وموازين القوى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن حلم التغيير يراود كثيرًا مِن المخلصين العاملين لدين الله -عز وجل-، ويتمنى هؤلاء تغيير الواقع المملوء بالظلم وانتشار المنكرات، ويتمنون لو حكَّموا شرع الله -عز وجل- في كل شئون الحياة، ولكن يتحتم على الجميع أن يكون على درايةٍ كافيةٍ بمنهج التغيير الصحيح الموافق للضوابط الشرعية؛ لذا يتحتم على الحركات الإصلاحية أن تقوم بدراسةٍ عميقةٍ للتاريخ الإسلامي، وما حوته صفحاته مِن أحداثٍ وثوراتٍ نجح بعضها، وفشل البعض الآخر.
فلا بد مِن تحليل الأحداث التاريخية، ودراسة أسباب النجاح والفشل، وعلى سبيل المثال لا الحصر: إذا تأملنا أسباب فشل وهزيمة أهل المدينة الذين خرجوا على يزيد بن معاوية في موقعة “الحرة” عام 63هـ؛ نجد أن مِن أهم أسباب الفشل: عدم اعتبار منهجية التغيير الصحيحة، فإن أهل المدينة لم يحسنوا تصور الواقع، ولم يحسنوا اختيار القادة، ولم يسمعوا النصيحة؛ فهم يتحملون مسئولية كبيرة؛ لأنهم أصروا على موقفهم، ولم يسمعوا نصيحة أكابر الصحابة حول نقضهم البيعة، ثم إنهم لم يدركوا البون الشاسع بيْن الجيشين؛ جيش كبير منظمٌ له أهدافه وخططه الواضحة، وجيش آخر يرفع جنوده بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة، يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع ومآلات الأمور وعواقبها، وقد ظنَّ أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدادت المفسدة وسالت الدماء؛ فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!
وإذا نظرنا في موقعة “دير الجماجم”: فقد قامت بثورة بقيادة “عبد الرحمن بن الأشعث” عام 81 هـ، وقد استجاب “عبد الملك بن مروان” لمطالب الثوار، وكان عددهم أكثر من مائة ألف، وعلى رأس المطالب: عزل الحجاج بن يوسف، فقالوا: ننظر في أمرنا غدًا، ثم انصرفوا فاجتمع جميع الأمراء إلى ابن الأشعث، فقام فيهم خطيبًا، وندبهم إلى قبول ما عرض عليهم مِن عزل الحجاج عنهم، وبيعة عبد الملك، وإبقاء الأعطيات وإمرة محمد بن مروان على العراق بدل الحجاج، ومما قاله لهم: “فقد أعطيتم أمرًا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدًا حسرة“، فنفر الناس مِن كل جانبٍ، وقالوا: لا والله لا نقبل ذلك، نحن أكثر عددًا، و قد ذلوا لنا، والله لا نجيب إلى ذلك أبدًا، ثم جددوا خلع عبد الملك!”.
وكان الأولى بابن الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير؛ فقد ضاعتْ فرصة كبيرة في التخلص مِن “الحجّاج”، وكان يمكنهم رفع سقف المطالب، والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسُّنة، ولكن يبدو أن بعض القواعد الشرعية كانت غائبة عن كثير منهم، فلم يفكروا في مآلات الأمور، ولم يحسنوا الترجيح بيْن المصالح والمفاسد.
ولقد كان مِن الأولى أن يحافِظ هؤلاء على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين، لكن مِن الواضح أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظات سيطرت فيها العاطفة الثورية، ولم تكن نتيجة معرفة تامة بالواقع، وموازين القوى الحقيقية، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ إذن فلا بد مِن مراعاة قاعدة: “تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما“، وقاعدة: “ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما“، وقاعدة: “اعتبار المآلات“.
وهنا يُلاحظ أن: الحماس الممزوج بالعاطفة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة؛ فلقد توحد هؤلاء وتجمعوا يرفعون بعض الشعارات الممزوجة بأحلام اليقظة؛ يدفعهم الحماس وتحركهم العاطفة، دون معرفة وبصيرة بحقائق الواقع، ومآلات الأمور وعواقبها -كما ذكرنا-، فلقد كانت هذه الثورة في وقتٍ مِن الأوقات هي أقوى -بل وأنجح- الثورات في التاريخ الأموي! وكان بإمكان أصحابها أن يقوموا بتغيير الواقع الذي يعيشونه إلى واقعٍ أفضل بكثير، ولكن في لحظة معينة أخطأ الثوار، وأخطأ أيضًا قائدهم؛ فكانت النتيجة أن سلَّم محمد بن مروان، وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج، وقالا: “شأنك بعسكرك وجندك؛ فاعمل برأيك، فقد أمرنا أن نسمع لك ونطيع”.
وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، واجتمع أهل الكوفة، وأهل البصرة، وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم، والقراء مِن أهل المصرين لقتال الحجاج، وجاءت الحجاج أيضًا أمداده مِن قِبَل عبد الملك، ودخل الطرفان في قتالٍ شديدٍ، وهنا هٌزم أهل العراق هزيمة منكرة، وهرب قائدهم، وقُتِل وأٌسر منهم عشرات الألوف، ثم انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ضد عبد الملك بن مروان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ، أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ؛ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا. وَاللَّهُ -تَعَالَى- لَا يَأْمُرُ بِأَمْرٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ صَلَاحُ الدِّينِ، وَلَا صَلَاحُ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ وَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يُحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ مِنَ الْقِتَالِ، وَهُمْ أَعْظَمُ قَدْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَحْسَنُ نِيَّةً مِنْ غَيْرِهِمْ”.
وإذا تأملنا كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- نلحظ أنه كان دقيقًا جدًّا في اختيار ألفاظه، فلقد قال: “وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ!”. ومعنى “عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ”: أي ذي منعة وشوكة وقوة.
أما في حالات ضعف الإمام: فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير، كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذي حلَّ بأخر خلفاء عصر بني أمية، ولما حلَّ الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية، فلقد استطاع “عبد الرحمن الداخل” أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس.
وقد قامتْ بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية، ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة.
وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية، وفي مصر والشام، قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكليةٍ فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ؛ فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى، أو أن يولي ويعزل مَن شاء!
لذا نقول: هناك مَن استطاع التغيير؛ فالأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، وهذه هي منهجية التغيير الصحيحة. والله المستعان.