بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فربما يظن البعض أن الانتصار للنفس من المحرمات، أو الجرائم التي يعاقب عليها الإسلام، وذلك يعود في حقيقة الأمر إلى خلل في المفاهيم.
و لعلك إذا انتصرت لنفسك بعد أن ظُلمت، تجد من يتهمونك في دينك، وربما بدّعوك، أو كفّروك، ويطالبونك بالصبر، والعفو، والتحمل، وربما فى ذات الوقت لا ينصحون الظالم مع قدرتهم على ذلك، أو يطالبونه بأن يكف عن ظلمه، ولا يعتريهم أدنى خجل من ذلك. وهذا والله من العجب أن يُلام المظلوم، ويُترك الظالم يتمادى في ظلمه.
ولكن من الواضح أن المفاهيم تغيرت، وتبدلت، وقد أُصيبت الضمائر والعقول بانتكاسة شديدة في هذه الأزمنة، قال تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 40 – 43]، ومفهوم الآيات الكريمة على ثلاثة محاور؛ فلقد ذكر الله في هذه الآية الأولى، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل، وفضل، وظلم.
فمرتبة العدل، جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص. ومرتبة الفضل: العفو، والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وقد وضع الله شرطًا للعفو، وهو وجود الإصلاح؛ ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.
وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} الذين يجنون على غيرهم ابتداء، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم. {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي: انتصر ممن ظلمه بعد وقوع الظلم عليه، {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي: لا حرج عليهم في ذلك، {إِنَّمَا السَّبِيلُ} أي: إنما الحرج، {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، وهذا شامل للظلم والبغي على الناس، في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم. {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجع للقلوب والأبدان، {وَلَمَنْ صَبَرَ} على ما يناله من أذى الخلق، {وَغَفَرَ} لهم، بأن سمح لهم عما يصدر منهم، {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ}.
فإن ترك الانتصار للنفس، بالقول، أو الفعل، والصبر على الأذى، والصفح عنه، ومغفرته، ومقابلته بالإحسان، من أشق الأمور على النفس، ولكنه يسير على من يسره الله عليه، وقال تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء: 148]، يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول، أي: يبغض ذلك، ويمقته، ويعاقب عليه، ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة، التي تسوء وتحزن، كالشتم، والقذف، والسب ونحو ذلك، فإن ذلك كله من المنهي عنه، الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول؛ كالذكر، والكلام الطيب، اللين.
وقوله: {إِلا مَن ظُلِمَ} أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه، ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه، ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتم غير ظالمه،ومع ذلك فعفوه وعدم مقابلته أولى وأفضل، كما قال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ويقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى: “وهو يحرم الجهر بالسوء من القول، ولكنه يستثني «إِلَّا مَنْ ظُلِمَ»، فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول، لأنه حق، ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم، الذي لا يستحقه! ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع، لا يتدنى إلى مستوى الأشرار البغاة، ولا إلى أسلحتهم الخبيثة، ووسائلهم الخسيسة. إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم، وإلى قتالهم وقتلهم، وإلى تطهير جو الحياة منهم. هكذا جهرة وفي وضح النهار”.
فصاحب الحق له أن يتكلم، ويجادل من أجل أن ينتصر لنفسه، وهذا لا يتعارض مع ضوابط الشريعة، وإلا ضاعت حقوق الناس، وأكل بعضهم حقوق بعض.
وعن عائشة رضى الله عنها، قالت: جاءت زينب بنت جحش رضى الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: أَزْوَاجُكَ أَرْسَلْنَنِي، وَهُنَّ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيَّ تَشْتِمُنِي، فَجَعَلْتُ أُرَاقِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْظُرُ طَرْفَهُ، هَلْ يَأْذَنُ لِي مِنْ أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا، قَالَتْ: فَشَتَمَتْنِي حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ مِنْهَا، فَاسْتَقْبَلْتُهَا، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ أَفْحَمْتُهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ» . [أخرجه النسائي وقال الألباني صحيح الإسناد].
ففي هذا الحديث إشارة واضحة إلى مشروعية الانتصار للنفس، فلقد أذن رسول الله لعائشة أن تنتصر لنفسها. ولابد ألا نغفل الطابع البشرى في الإنسان، والصفات البشرية، تقتضي أن ينتصر الإنسان لنفسه، إلا إذا عفا كما ذكرنا سابقًا، لكنه لا يلام على انتصاره لنفسه، فهو بشر، ولو كان من الصالحين، وفى قصة إسلام وحشي بن حرب رضى الله عنه ما يوضح ذلك، وهو قاتل حمزة رضى الله عنه، ذهب إلى رسول الله، وشهد شهادة الحق أمام رسول الله، فقال له: أنت وحشي. فقال: نعم. قال: حدثني كيف قتلت عمي حمزة؟ فحدثه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تريني وجهك. وكان وحشي لا يري نفسه لرسول الله حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا لبشريته عليه الصلاة والسلام، مع أن الإسلام يجب ما قبله، ولكن لا يتحمل رسول الله أن يرى قاتل عمه حمزة رضى الله عنه.
فالغرض المقصود أن الانتصار للنفس ليس فيه حرج، وإن كان الأولى العفو، على التفصيل السابق، ولكن نقول لأهل الزيغ والسب والطعن ما قاله الإمام أحمد لمخالفيه: اسكتوا نسكت.
والله المستعان.