تحقيق موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أحداث الفتنة، ولماذا خرجت إلى البصرة؟
تحقيق موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من أحداث الفتنة
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
لقد تحدثنا في مقالات سابقة عن أحداث الفتنة، وعن موقف الصحابة رضي الله عنهم من أحداثها ([1])، ونريد في هذا المقال أن نسلط الضوء على موقف أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وذلك تحقيقًا وتنقيحًا للروايات التاريخية مما شابها من تحريف وتزوير، ودفاعًا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
أولًا: لماذا خرجت عائشة رضي الله عنها إلى أرض العراق؟
لقد سلطنا الضوء في مقال سابق على موقف بعض أمهات المؤمنين من حصار أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وأشرنا إلى ما قامت به أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكذا ما قامت به أم المؤمنين صفية – رضي الله عنهما.
علمًا بأن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها، قد خرجت في موسم الحج من المدينة متوجهة إلى مكة، وجاءها مروان بن الحكم، فقال: أم المؤمنين، ” لو أقمتِ كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل، فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة، ثم لا أجد مَن يمنعني، لا والله لا أُعَيَّر، ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء”، و لعلها رأت – رضي الله عنها- أن خروجها ربما كان مُعينًا على فض هذه الجموع.
هذا وقد أناب أمير المؤمنين عثمان بدلًا منه عبد الله بن عباس على موسم الحج، فقال له ابن عباس: ” دعني أكن معك وبجانبك يا أمير المؤمنين في مواجهة هؤلاء، فوالله إن جهاد هؤلاء الخوارج أحبَّ إليَّ من الحج، قال له: عزمت عليك أن تحج بالمسلمين”، فلم يجد ابن عباس أمامه إلا أن يطيع أمير المؤمنين، وبعد أن تمت عملية الهجوم على دار أمير المؤمنين عثمان ثم مقتله ، وصلت هذه الأخبار إلى مكة المكرمة، ووصلت تلك الأنباء المُفجعة إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فحزنت حزنًا شديدًا وقالت ” إن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر؛ ثم خاطبت الناس وقالت: اطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام، والله لأطالبن بدمه “، ثم قدِم طلحة والزبير – رضي الله عنهما- إلى مكة ولقيا عائشة – رضي الله عنها، ودار بينهم نقاشات ومشاورات حول تداعيات الأمر، وفي النهاية اتفقوا على التوجه إلى مدينة البصرة، وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبْل خروجهم أو أثناء طريقهم أو عند وصولهم إلى البصرة، وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح بين الناس، وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ مِن حدود الله، وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان – رضي الله عنه-؛ فسيكون كل إمام معرضًا للقتل مِن أمثال هؤلاء، وسُمي يوم خروجهم مِن مكة نحو البصرة بـ”يوم النحيب”، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له مِن ذلك اليوم، وهكذا غادرت أم المؤمنين مكة متوجهة إلى مدينة البصرة.
ثانيًا: هل كانت أم المؤمنين عائشة تريد إقامة الحد، أم كانت تريد الإصلاح؟
أورد ابن سعد في الطبقات أن كَعْبَ بْنَ سُورٍ لَمَّا قَدِمَ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ الْبَصْرَةَ دَخَلَ فِي بَيْتٍ وَطَيَّنَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ فِيهِ كَوَّةً يُنَاوَلُ مِنْهَا طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ اعْتِزَالا لِلْفِتْنَةِ. فَقِيلَ لِعَائِشَةَ: إِنَّ كَعْبَ بْنَ سُورٍ إِنْ خَرَجَ مَعَكِ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنَ الأَزْدِ أَحَدٌ،.فَرَكِبَتْ إِلَيْهِ فَنَادَتْهُ وَكَلَّمَتْهُ فَلَمْ يُجِبْهَا. فَقَالَتْ: يَا كَعْبُ أَلَسْتُ أُمَّكَ وَلِي عَلَيْكَ حَقّ؟
فَكَلَّمَهَا فَقَالَتْ: ” إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ”. وَكَانَ كعب رحمه الله مَعْرُوفًا بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، علمًا بأن كعب بن سور هو أحد كبار التابعين، وقد بذل كل جهد من أجل وقف القتال، ، فقد استمر في محاولة الصلح إلى أن وقع القتال، و قُتل وهو بين الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله وكف السلاح.
فهذه الرواية التي أوردها ابن سعد تنص فيها أم المؤمنين عائشة على أنها خرجت من أجل الإصلاح، وهذا موافق لقوله تعالى: { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }.
وذكر الطبري رواية أخرى وفيها ” ولما سمعت عائشة رضي الله عنها بموت عثمان في طريق عودتها من مكة إلى المدينة رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر فتستَّرت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه، خلجوا([2])، وبادروا بالعدوان، نبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، فنجاة ([3]) من اجتماعكم عليهم حتى يَنْكل بهم غيرهم، ويشرَّد من بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبًا نخلُص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه، إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء ([4]).
وجاء في رواية أن عائشة رضي الله عنها حين انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله ابن عامر الحضرمي أمير مكة فقال لها: ما ردّك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردي أن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام ([5]).
وهذه الروايات الذي ذكرها الإمام الطبري تنص على أن عائشة رضي الله عنها قد خرجت من أجل إقامة الحد على قتلة عثمان.
وبالجمع بين الروايات نقول: لعل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت ترى أن الإصلاح المنشود لن يكون إلا بإقامة الحد على قتلة عثمان، وبهذا تستقر الأوضاع في الحجاز والعراق وغيرها من البلدان، وهذا ما يؤكده الحوار الذي دار بينها وبين القعقاع بن عمرو عندما سألها ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بنى من أجل الإصلاح بين الناس، فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها، ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة: من أجل الإصلاح بين الناس، فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان، رضي الله عنه، لابد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقُتصَّ منهم كان هذا إحياء للقرآن ([6]) .
ثالثًا: موقف أم المؤمنين عائشة من القتال يوم الجمل وعودتها إلى المدينة:
لقد ذكرنا في مقالنا الخاص بمعركة الجمل ([7]) أن القوم قد اتفقوا على الصلح، ثم قام أتباع ابن سبأ بدور خبيث من أجل إشعال الحرب بين الطرفين، وبالفعل نجحوا في ذلك، وكادت عائشة أن تُقتل أثناء القتال كما ذكرنا في مقالنا السابق، وبعد انتهاء المعركة توجه أمير المؤمنين علي إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة، فاستأذن وسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بنى خلف يبكين على من قُتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قُتل مع عائشة، وعثمان قُتل مع علي، فلما دخل علي رضي الله عنه، قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها علي شيئًا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضًا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟!([8]).
وقد جهز أمير المؤمنين علي لعائشة رضي الله عنها كل شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع من أجل عودتها ، وأخرج معها من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات لمرافقتها فى السفر، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وخرجت من الدار في الهودج، فودعت الناس ودعت لهم وقالت: “يا بني، لا يغتب بعضكم بعضًا، إنه والله ما كان بيني وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه لمن الأخيار”، فقال علي رضي الله عنه:صدقت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجة نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، وخرجت يوم السبت لغرة رجب عام 36 هـ ، وشيعها علىٌّ أميالاً وسرح بنيه معها يومًا ([9]).
وبتلك المعاملة الكريمة من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال له: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. قال: أنا يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: أنا؟ قال: نعم. قلت: فأنا أشقاهم يا رسول الله. قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها»([10]). هذا و قد ظهر موقف أمير المؤمنين علي رضى الله عنه ممن ينال من عائشة: فلقد جاء إليه رجل وقال : يا أمير المؤمنين، إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علىٌّ القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما من ثيابهما، وقد قام القعقاع بذلك ([11]).
وقد ندمت عائشة على خروجها وكانت إذا قرأت قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] تبكي حتى تبل خمارها، وكانت كلما تذكرت الجمل قالت” وددت أنى كنت جلست كما جلس صواحبى “([12]).
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: وَلاَ رَيْبَ أَنَّ عَائِشَةَ نَدِمَتْ نَدَامَةً كُلِّيَّةً عَلَى مَسِيْرِهَا إِلَى البَصْرَةِ وَحُضُورِهَا يَوْمَ الجَمَلِ وَمَا ظَنَّتْ أَنَّ الأَمْرَ يَبْلُغُ مَا بَلَغَ ([13]).
و عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، قَالَ قَالَتْ عَائِشَةُ: إِذَا مَرَّ ابْنُ عُمَرَ فَأَرُونِيهِ، فَلَمَّا مَرَّ ابْنُ عُمَرَ قَالُوا: هَذَا ابْنُ عُمَرَ.
فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تَنْهَانِي عَنْ مَسِيرِي؟ قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلا قَدْ غَلَبَ عَلَيْكِ، وَظَنَنْتُ أَنَّكِ لا تُخَالِفِينَهُ- يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ. قَالَتْ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ نَهَيْتَنِي مَا خَرَجْتُ.( الاستيعاب لابن البر)
وبهذا يتضح بما لا يدع مجاًلا للشك، أن عائشة رضي الله عنها، ما خرجت إلا للإصلاح، وتوحيد كلمة الأمة، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
- راجع سلسلة مقالات: صفحات من ذاكرة التاريخ، و نفض الغبار عن تاريخ الأخيار. ↑
- () خلجوا: تحركوا واضطربوا، انظر:المعجم الوسيط (1/214) ↑
- () أى :اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم ↑
- () الطبرى:تاريخ الرسل والملوك، (5 / 473، 474) . ↑
- () الطبرى: المصدر السابق، (5/475) . ↑
- () ابن كثير:البداية والنهاية (7/739) ↑
- ) راجع سلسلة مقالات: صفحات من ذاكرة التاريخ، و نفض الغبار عن تاريخ الأخيار. ( ↑
- () ابن كثير : البداية والنهاية، (7/356) . ↑
- () ابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، أبو حاتم، الدارمي، البُستي (المتوفى: 354هـ) السيرة النبوية وأخبار الخلفاء، صحّحه وعلق عليه الحافظ السيد عزيز بك وجماعة من العلماء، الناشر: الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1417 هـ، عدد الأجزاء: 2 (2/537) . ↑
- () مسند أحمد (6/ 393) إسناده حسن.وانظر ابن حجر :فتح البارى، (13/55) . ↑
- () ابن كثير :المصدر السابق (7/358) . ↑
- () الذهبى: سير أعلام النبلاء (2/ 177) وانظر ابن حجر :فتح البارى، (13/55) . ↑
- () الذهبي: سير أعلام النبلاء ( 3/452). ↑