مقالات تاريخية

نُسيبة -رضي الله عنها- رمز العطاء والتضحية والفداء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فما أحوجنا في هذه الأيام إلى أن نبحث عن القدوة؛ وذلك لأن كثيرًا مِن المسلمين يقتدون بما لا يصلح للاقتداء به، فيقتدون بأهل اللهو واللعب، والفن والفجور، وقد حوت صفحات التاريخ بيْن جنباتها قصة امرأة مِن الصحابيات كانت -ولا تزال- هي القدوة الحقيقية لكل مسلم ومسلمة، هي رمز العطاء والفداء والتضحية، هي امرأة ينبغي على الرجال والنساء والشباب أن يجعلوها قدوتهم في حياتهم؛ لأنها فاقت بأفعالها آلاف الرجال؛ إنها أم عُمارة “نسيبة بنت كعب” الأنصارية -رضي الله عنها-، شهدت ليلة العقبة، وشهدت أحدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وقطعت يدُها في الجهاد، فهي مجاهدة بكل ما تحويها الكلمة مِن معنى.

لقد خرجت نسيبة في جيش المسلمين يوم أُحد تسقي الظماء وتداوي الجرحى، ولما تحول الانتصار إلى هزيمة بعد غلطة الرماة، وانكشف الناس عن رسول الله وفرَّ مَن فرَّ مِن جيش المسلمين، جاء دور نسيبة، فحملت سيفها وقوسها، وذهبت تصول وتجول بيْن يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، تدافع عن رسول الله حتى قال -صلى الله عليه وسلم-: “ما التفتُ يمينًا ولا شمالًا إلا وأنا أراها تقاتل دوني”.

يقول ابنها عمارة: “جُرحْتُ يومئذ جرحًا في عضدي اليسرى، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “اعصب جرحك”، فأقبلت أمي إليَّ، ومعها عصائب في حَقْوَيْها، قد أعدَّتها للجراح، فربطت جرحي، والنبي واقف ينظر إليَّ، قالت: “انهض بُنَيَّ فضارِب القوم”، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: “ومَن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟!”، قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “هذا ضارب ابنك”، قالت: فاعترضتُ له فضربتُ ساقه، فبرك، قالت: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتبسمُ حتى رأيت نواجذه، وقال: “استقدتِ يا أم عمارة، الحمد لله الذي ظفَّرك وأقرَّ عينك مِن عدوك، وأراك ثأرك بعينك” (مغازي الواقدي).

وأصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلاثة عشر جرحًا، واحد منها غار في عاتقها فنزف الدم منه وهي رغم ذلك كالصاعقة الساحقة، تضرب في نحور العدو، والدم ينزف منها وهي لا تشعر، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لابنها: “أمّك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم مِن أهل بيت، مقام أمك خير مِن مقام فلان وفلان“، فلما سَمِعَتْ أمُه ذلك قالت: “يا رسول الله، ادع الله أن نرافقك في الجنة”، فقال: “اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة“، فقالت: “ما أبالي ما أصابني في الدنيا”.

وفي خلافة الصديق جاهدت في معركة اليمامة، وكانت قد كبر سنها، وولدها حبيب بن زيد بن عاصم هو الذي أخذه مسيلمة الكذاب، فقطًّع أعضاءه عضوًا عضوًا ليرتد عن دينه، حتى مات تحت العذاب، وهو ثابت على دينه وبلغها مقتله، فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يُقتل أو تُقتل، فذهبت إلى اليمامة، واشتركت في الموقعة التي قتل فيها مسيلمة، وأبلتْ بلاءً حسنًا حتى قطعت يدها وهي تحاول قتل مسيلمة، وجُرِحت سوى يدها أحدَ عَشر جرحًا، ثم عادت مِن المعركة بيدٍ واحدة، والدم ينزف، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، واستمر جرحها ينزف دمًا حتى فارقت الحياة، وأدركتها الوفاة -رضي الله عنها-.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى