تاريخ مدينة عسقلان الفلسطينية
عسقلان هي ذروة الشام[1] وهي مدينة تاريخية عريقة، تقع جنوب فلسطين على ساحل البحر المتوسط.
الجذور التاريخية لمدينة عسقلان:
أسس عسقلان الكنعانيون قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام تقريبًا، عندما دخلوا فلسطين، فهذه المدينة أول مَن دخلها العرب، وأول مَن أسسها وشيَّدها هم العرب، عندما انتقلوا من شبة الجزيرة العربية إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، في بيت المقدس وما حوله.
كانت مدينة عسقلان من المدن التي احتلها بُختنَصر عندما هجم على الأراضي المقدسة، وكانت تسمَّى قديمًا: (مِجدَل) أي: المكان العالي المرتفع، أو تأتي أحيانًا الكلمة بمعني القلعة.
وذَكَر ابن كثير أن مدينة عسقلان فُتحت عام 23هـ، أي: في أواخر خلافة عمر بن الخطاب ، فتحها معاوية صلحًا، ولم تزل عسقلان مدينة عامرة عريقة منذ ذلك العهد، وحتى استولى عليها الصليبيون في عصر الخلافة العباسية عام 548هـ، ثم استردها صلاح الدين بعد 35 عامًا من احتلالها، أي: عام 583هـ/1187م، وقد كان صلاح الدين دائمًا ينظر صوب عسقلان؛ ولذا استردها بعد أن وقعت في أيدي الصليبيين، ثم تغيَّرت الأحوال وأتت حملة صليبية جديدة، فاستولى الصليبيون على عكا عام 587هـ/1191م، ثم سقطت بعد ذلك مدينة حيفا، وهنا اجتمع صلاح الدين مع مستشاريه، فاجتمع مع ذوي الرأي وأهل الشورى، وقادة الجُند، وتدارس معهم خطورة الأمر، ومدى تأثير احتلال المدن الساحلية على مدينة القدس، لاسيما وأن الدور على مدينة عسقلان، ولو استطاع الصليبيون السيطرة على عسقلان بما تحويه من قلاع وموقع جغرافي إستراتيجي متميز؛ لشكَّل ذلك خطرًا على بيت المقدس، وكأن عسقلان ستكون هي بداية الطريق لسقوط بيت المقدس، وهنا أشار عليه ذوو الرأي بضرورة تخريب مدينة عسقلان وتحطيمها.
ولنا أن نتخيل موقف صلاح الدين، وهو الذي حرر المدينة وشيَّدها وبناها، هل يخرب المدينة بيده ويدمرها؟
هل يصدر قرارًا بتخريب المدينة وحرقها؟
هل يصدر قرارًا بحرق عسقلان؟
ولذا فقد أصيب بالهم، وبات يفكِّر طوال الليل، ثم في الصباح وبكل حزن وأسى أصدر صلاح الدين قراره بتخريب عسقلان وحرقها، وهنا خرج بعض الجهال من الذين لا يقرأون التاريخ قراءة واعية مستنيرة، ولا يفهمون مقاصد الأفعال، وطعنوا في قرار صلاح الدين!
نعم لقد أمر صلاح الدين بحرق مدينة عسقلان، وأحرق المسلمون عسقلان، وقاموا بحرق الأشجار والثمار، وهدموا الأبنية والقلاع، والسؤال: لماذا؟!
لأن عسقلان هي الطريق إلى القدس وبيت المقدس، والمسجد الأقصى، فإن سيطرة الكفار على عسقلان تشكِّل خطرًا على القدس.
لقد أصدر صلاح الدين قراره وهو يبكي، وقد ذكر ابن كثير تفاصيل تلك الحادثة فقال: «فصل: فيما حدث بَعْدَ أَخْذِ الْفِرِنْجِ عَكَّا سَارُوا بَرُمَّتِهِمْ قَاصِدِينَ عَسْقَلَانَ، وَالسُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ يُسَايِرُهُمْ وَيُعَارِضُهُمْ مَنْـزِلَةً مَنْـزِلَةً، وَالمُسْلِمُونَ يَتَخَطَّفُونَهُمْ وَيَسْلُبُونَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَكُلُّ أَسِيرٍ أُتي بِهِ إلى السُّلْطَانِ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِ في مكانه، وجَرَت خطوب بين الجيشين، ووقعات متعددات، ثم طلب ملك الإنكليز، يَجْتَمِعَ بِالمَلِكِ الْعَادِلِ أَخِي السُّلْطَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ الصلح والأمان، على أن يعاد لأهلها بلاد السواحل، فَقَالَ لَهُ الْعَادِلُ: إِنَّ دُونَ ذَلِكَ قَتْلُ كُلِّ فَارِسٍ مِنْكُمْ وَرَاجِلٍ، فَغَضِبَ اللَّعِينُ وَنَهَضَ من عنده غضبان.
ثُمَّ اجْتَمَعَتِ الْفِرِنْجُ عَلَى حَرْبِ السُّلْطَانِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ، فَكَانَتِ النُّصْرَةُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقُتِلَ مِنَ الْفِرِنْجِ عِنْدَ غَابَةِ أَرْسُوفَ أُلُوفٌ بَعْدَ أُلُوفٍ، وَقُتِلَ مِنَ المُسْلِمِينَ خَلْقٌ كَثِيرٌ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ الجَيْشُ فَرَّ عَنِ السُّلْطَانِ فِي أَوَّلِ الوقعة، وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ سِوَى سَبْعَةَ عَشَرَ مُقَاتِلًا، وهو ثابت صابر، وَالْكُوسُ تُدَقُّ لَا تَفْتُرُ، وَالْأَعْلَامُ مَنْشُورَةٌ، ثُمَّ تَرَاجَعَ النَّاسُ فكانت النصرة للمسلمين، ثُمَّ تَقَدَمَّ السُّلْطَانُ بِعَسَاكِرِهِ فَنَـزَلَ ظَاهِرَ عَسْقَلَانَ، فَأَشَارَ ذَوُو الرَّأْيِ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ عَسْقَلَانَ خشية أن يتملكها الكفار، ويجعلونها وسيلة إلى أخذ بيت المقدس، أَوْ يَجْرِي عِنْدَهَا مِنَ الحَرْبِ وَالْقِتَالِ نَظِيرُ مَا كَانَ عِنْدَ عَكَّا، أَوْ أَشَدُّ، فَبَاتَ السلطان ليلته مفكرًا في ذلك، فلما أَصْبَحَ وَقَدْ أَوْقَعَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ أَنَّ خَرَابَهَا هُوَ المَصْلَحَةُ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِمَنْ حَضَرَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: وَاللهِ لَمَوْتُ جَمِيعِ أَوْلَادِي أَهْوَنُ عليَّ مِنْ تَخْرِيبِ حجر واحد منها، ولكن إذا كان خرابها فِيهِ مُصْلِحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِهِ.
ثُمَّ طَلَبَ الْوُلَاةَ وَأَمَرَهُمْ بِتَخْرِيبِ الْبَلَدِ سَرِيعًا قَبْلَ وصول العدو إليها، فَشَرَعَ النَّاسُ فِي خَرَابِهِ، وَأَهْلُهُ وَمَنْ حَضَرَهُ يَتَبَاكُونَ عَلَى حُسْنِهِ وَطِيبِ مَقِيلِهِ، وَكَثْرَةِ زُرُوعِهِ وثماره، ونضارة أنهاره وأزهاره، وكثرة رخامه وحسن بنائه.
وألقيت النار في سقوفه وَأُتْلِفَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَلَّاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحْوِيلُهَا، وَلَا نَقْلُهَا، وَلَمْ يَزَلِ الْخَرَابُ والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سَلْخِ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ.
ثُمَّ رَحَلَ السُّلْطَانُ مِنْهَا فِي ثَانِي رَمَضَانَ، وَقَدْ تركها قاعًا صفصفًا ليس فيها معلمة لِأَحَدٍ[2].
ولا شك أن ما فعله صلاح الدين يدل على فقهه وفطنته، وأنه على علم ومعرفة وبصيرة بحقائق الواقع، ومآلات الأمور وعواقبها، وعلى دراية بفقه الترجيح بين المصالح والمفاسد، ومعرفة تامة بالواقع وموازين القوى الحقيقية، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، إذَا فلا بد من مراعاة قاعدة: تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وقاعدة: ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما، وقاعدة: اعتبار المآلات، وهذا ما فعله صلاح الدين الأيوبي.
ولذا فإن الخضر عليه السلام لما خرق السفينة، وتعجب موسى عليه السلام من فعله وصنيعه، كان السبب كما قال تعالى: [ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا] [الكهف:79]، فلو لم يخرق الخضر السفينة لاستولى عليها الملك الظالم، وهذا هو الذي فعله صلاح الدين؛ أحرق عسقلان حماية لبيت المقدس.
ثم أتي بعد ذلك ريتشارد قلب الأسد، وأقام قلعة على أطلال مدينة عسقلان، ثم استعادها المصريون أثناء حروب الملك الصالح أيوب عام 645هـ /1247م، ولكن للأسف الشديد، تتوالى الأحداث وتمر السنون، ويسيطر اليهود على مدينة عسقلان بالكامل عام 1367هـ /1948م، وتقع عسقلان في أسر اليهود، وهي محتلة من يومها إلى يومنا هذا.
عسقلان وإن نساها الناس، فلن ينساها التاريخ؛ فهي ذروة الشام، قال عنها ياقوت الحموي: «ويقال لها: عروس الشام، وكذلك يقال لدمشق أيضًا، وقد نـزلها جماعة من الصحابة والتابعين، وحدَّث بها خلق كثير»[3].
عسقلان تحدَّث عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فيكفيها شَرَفًا وفخرًا أن اسمها جَرَى على لسان رسول الله ، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ هَذَا الأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ: عَسْقَلانُ»[4].
فعسقلان هي أرض الرباط، وهي أرض الجهاد.
عسقلان في قلب كلِّ مسلم، وفي قلب كل عربي.
عسقلان في قلب التاريخ وذاكرته.
فكيف ننساها وقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
عسقلان محفوظة في قلوبنا، وفي عقولنا بحفظنا لحديث رسول الله.
نسأل الله تعالى أن يردها إلى المسلمين مرة أخرى ردًّا حميدًا.
[1] يروى عن عبد الله بن عمر أنه قال: «لكل شيء ذروة، وذروة الشام عسقلان. انظر: الحموي، معجم البلدان (4/122).
[2] ابن كثير: البداية والنهاية (12/421).
[3] الحموي: معجم البلدان (4/122).
[4]( رواه الطبراني في المعجم الكبير (11138) بسندٍ رجاله ثقات، وقال الألباني عن هذا الحديث: «إسناده جيد».