صفحات مِن ذاكرة التاريخ (50) ثورة زيد بن علي بن الحسين عام 122هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد استقرت الأوضاع السياسية في أرض الحجاز إلى حدٍّ بعيدٍ بعد مقتل أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- عام 73هـ – 693م، ومِن حينها استقر الأمر بعدها لعبد الملك بن مروان، وسيطر على أرض الحجاز دون أي توتراتٍ سياسيةٍ، وظل الأمر كذلك إلى أن ظهرت حركة معارضة جديدة يقودها زيد بن علي بن الحسين -رحمه الله-.
ولقد نشأ زيد -رحمه الله- بالمدينة، وكانت منارة العلم بما كان فيها مِن الصحابة والتابعين، فحفظ القرآن وتعلم العلوم الشرعية، وقد ساهمت أسباب عديدة في خروجه على هشام بن عبد الملك.
ومِن هذه الأسباب: تأثره بما حدث لأهل بيته مِن تقتيل وتشريد، وقتل جده الحسين بن علي -رضي الله عنه-، وتعرضه هو أيضا لبعض الإهانات مِن بعض ولاة هشام بن عبد الملك، بل ومِن هشام نفسه، وتغير حكم الشورى إلى حكم الملك العضوض مع مجيء الأمويين، ثم شعوره بالمظالم الواقعة على الناس، وللمنكرات التي انتشرتْ في زمانه، وقد حدثت عدة اتصالات بيْن أهل الكوفة وزيد بن علي عام 121هـ – 740م.
قدم زيد الكوفة وأقام بها مستخفيًا ينتقل في المنازل، وأقبلت الشيعة تختلف إليه تبايعه، فبايعه جماعة منهم وكانت بيعته: “إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، وردّ المظالم، ونصْر أهل البيت، أتبايعون على ذلك؟ قالوا: نعم”، فبايعه خمسة عشر ألفًا. وقيل: أربعون ألفًا، فأمر أصحابه بالاستعداد، فأقبل مَن يريد أن يفي له ويخرج معه ويستعدّ ويتهيّأ، فشاع أمره في الناس (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
وقد اعترض بعض الناس على خروج زيد، منهم: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقد كتب كتابًا إلى زيدٍ جاء فيه: “أما بعد، فَإِنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ نَفْخُ الْعَلَانِيَةِ، خَوَرُ السَّرِيرَةِ، هَرَجٌ فِي الرَّخَاءِ، جَزَعٌ فِي اللِّقَاءِ، تَقَدَمُهُمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَلَا تُشَايِعُهُمْ قُلُوبُهُمْ، وَلَقَدْ تَوَاتَرَتْ إِلَيَّ كُتُبُهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ، فَصَمَمْتُ عَنْ نِدَائِهِمْ، وَأَلْبَسْتُ قَلْبِي غِشَاءً عَنْ ذِكْرِهِمْ يَأْسًا مِنْهُمْ وَاطِّرَاحًا لَهُمْ، وَمَا لَهُمْ مَثَلٌ إِلَّا مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: “إِنْ أُهْمِلْتُمْ خُضْتُمْ، وَإِنْ حُورِبْتُمْ خِرْتُمْ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ، وَإِنْ أَجَبْتُمْ إِلَى مَشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ!” (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
وجاء داود بن علي ناصحًا لزيدٍ، قال: “يا بن عمّ، إن هؤلاء يغرّونك مِن نفسك، أليس قد خذلوا مَن كان أعز عليهم منك جّدك علي بن أبي طالب حتى قتل؟ والحسن مِن بعده بايعوه ثّم وثبوا عليه فانتزعوا رداءه وجرحوه؟ أوَليس قد أخرجوا جّدك الحسين وحلفوا له وخذلوه وأسلموه ولم يرضوا بذلك حتى قتلوه؟ فلا ترجع معهم”.
وجاء كذلك سلمة بن كُهَيْل فذكر لزيدٍ قرابته مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحقّه فأحسن، ثم قال له: “ننشدك الله كم بايعك؟ قال: أربعون ألفًا. قال: فكم بايع جَدَّك؟ قال: ثمانون ألفًا. قال: فكم حصل معه؟ قال: ثلاثمائة. قال: نشدتك الله أنت خير أم جَدّك؟ قال: جدّي. قال: فهذا القرن خير أم ذلك القرن؟ قال: ذلك القرن. قال: أفتطمع أن يَفي لك هؤلاء وقد غدر أولئك بجّدك؟ قال: قد بايعوني ووجبت البيعة في عنقي وأعناقهم” (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
واستمر زيد في حشد الأنصار، وكانت الأجهزة الأمنية الأموية تتابع الأحداث ومجريات الأمور، وفي المقابل: اشترك عددٌ مِن أهل الفضل في ثورة زيد. وقيل: “إن أبا حنيفة -رحمه الله- كان يحرِّض على الخروج”، فعن عبد الله بن مالك بن سليمان، قال: “أرسل زيد إليه يدعوه إلى البيعة، فقال: لو علمت أن الناس لا يخذلونه كما خذلوا أباه لجاهدت معه؛ لأنه إمام حق، ولكني أعينه بمالي فبعث إليه بعشرة آلاف درهم”، وقال للرسول: “أبسط عذري عنده”. وفي رواية: “اعتذر إليه بمرض يعتريه”، ولا منع مِن الجمع، وسُئل عن خروجه فقال: “ضاهى خروج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر. فقيل له: لمَ تخلفت؟! قال: حبسني عنه ودائع الناس عرضتها على ابن أبي ليلى فلم يقبل، فخفت أن أموت مجهلًا”، وكان كلما ذكر خروجه بكى (الجواهر المضية في طبقات الحنفية).
وكذا منصور بن المعتمر، فقد ورد أنه كان يحرِّض على الخروج مع زيد، فعن عقبة بن إسحاق قال: “كان منصور بن المعتمر يأتي زبيد بن الحارث، فكان يذكر له أهل البيت ويعصر عينيه يريده على الخروج أيام زيد بن علي” (سير أعلام النبلاء).
الشيعة الروافض ينشقون عن زيدٍ ويغدرون به:
ولما أمر أصحابه بالاستعداد للخروج وأخذ مَن كان يريد الوفاء له بالبيعة يتجهزّ، وصل الأمر إلى والي العراق يوسف بن عمر، فاستنفر أجهزة الدولة للقضاء على زيدٍ، وعندما خرج زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبد الملك، فأظهر بعض مَن كان في جيشه مِن الشيعة الطعن على أبي بكر وعمر فمنعهم مِن ذلك، وأنكر عليهم فرفضوه، فسموا بالرافضة وسميت الطائفة الباقية معه بالزيدية.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: “إن أول ما عُرف لفظ الرافضة في الإسلام عند خروج زيدٍ بن علي في أوائل المئة الثانية، فسئل عن أبي بكر وعمر فتولاهما فرفضه قوم فسموا رافضة.
ومِن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى: “رافضة”، و”زيدية”؛ فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فترحم عليهما رفضه قوم فقال لهم: “رفضتموني؟!”، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي مَن لم يرفضه مِن الشيعة زيديًّا؛ لانتسابهم له” (مجموع الفتاوى لابن تيمية).
هذه هي عقيدة زيد بن علي في الشيخين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-؛ لأنه لا يمكن أن يشذَّ عن المنهج الذي كان عليه والده زين العابدين علي بن الحسين، ومِن قبْله والده ثم جدّه علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- في حبهم الصادق لأبي بكر وعمر وعثمان والصحابة جميعًا.
مقتل زيد بن علي -رحمه الله-:
ثم إن زيدًا -رحمه الله- عزم على الخروج بمَن بقي معه مِن أصحابه، فواعدهم ليلة الأربعاء مِن مستهل صفر مِن هذه السَّنة، فبلغ ذلك يوسف بن عمر، فكتب إلى نائبه على الكوفة وهو الحكم بن الصلت يأمره بجمع الناس كلهم في المسجد الجامع، فجمع الناس لذلك في يوم الثلاثاء، قبْل خروج زيد بيوم، وخرج زيد ليلة الأربعاء في برد شديد، ورفع أصحابه النيران، وجعلوا ينادون: “يا منصور، يا منصور”، فلما طلع الفجر وقد اجتمع معه مائتان وثمانية عشر رجلًا، فجعل زيد يقول: “سبحان الله! أين الناس؟ فقيل: هم في المسجد محصورون”. وكتب الحكم إلى يوسف يعلمه بخروج زيد بن علي، فبعث إليه سرية إلى الكوفة، وركبت الجيوش مع نائب الكوفة، وجاء يوسف بن عمر أيضًا في طائفةٍ كبيرةٍ مِن الناس، والتقى الطرفان وانتصر زيد في بداية الأمر، وكلما لقي طائفة هزمهم، وجعل أصحابه ينادون: “يا أهل الكوفة، اخرجوا إلى الدين والعز والدنيا، فإنكم لستم في دين ولا عز ولا دنيا”، ثم لما أمسوا انضم إليه جماعة مِن أهل الكوفة، وقد قٌتل بعض أصحابه في أول يوم، فلما كان اليوم الثاني اقتتل هو وطائفة مِن أهل الشام، فقتل منهم سبعين رجلًا، وانصرفوا عنه بشر حال، ثم عبأ يوسف بن عمر جيشه جدًّا، ثم أصبحوا فالتقوا مع زيد فكشفهم حتى أخرجهم إلى السبخة -موضع بالبصرة-، ثم شد عليهم حتى أخرجهم إلى بني سليم، ثم تبعهم في خيله ورجله، ثم اقتتلوا قتالًا شديدًا جدًّا، حتى كان جنح الليل رٌمي زيد بسهم فأصاب جانب جبهته اليسرى، فوصل إلى دماغه، فرجع ورجع أصحابه، وأٌدخل زيد في دارٍ، وجيء بطبيبٍ فانتزع ذلك السهم مِن جبهته، فما عدا أن انتزعه حتى مات مِن ساعته -رحمه الله-. (البداية والنهاية لابن كثير)، فدفنوه في ساقية ماء وجعلوا على قبره التراب والحشيش؛ خوفًا مِن أن يمثِّل الوالي الأموي بجثته، ولكن تم الوصول إلى قبره فنبشوا قبره وصٌلب جثمانه، وأرسل يوسف برأسه إلى هشام (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، ولما وصل رأس زيد إلى هشامٍ استاء مِن قتله وكان لا يحب القتل (الدولة الأموية ليوسف العش).
وبعد مقتل زيد توجه ابنه يحيى إلى خراسان، فأقام بها مدة إلى حين وفاة هشام بن عبد الملك، وولاية الوليد بن يزيد فخرج، وسرعان ما قٌتل أيضًا، ويرى الذهبي أن يحيى قٌتل بخراسان في عهد هشام (سير أعلام النبلاء)، وقال الليث بن سعد: “قٌتل يحيى سنة 125هـ – 743م، وقد تأثر هشام لمقتل زيد ويحيى ودخله مِن مقتلهما أمر شديد حتى قال: “وددت لو كنتُ افتديتهما”، وهكذا انتهت ثورة زيد بن علي سريعًا كما بدأت سريعًا.
أثر مقتل زيد على الدولة الأموية:
كان لثورة زيد بن علي تأثير مهم في سير الأحداث التي وقعتْ في العصر الأموي، وتمخضت عنها نتائج بعيدة المدى، وكان فشلها بمثابة الدافع لحركاتٍ أخرى حذت حذوها، فقد هرب يحيى بن زيدٍ إلى خراسان، وأعلن الثورة على الأمويين هناك، ومع أن يحيى فشل في القضاء على الحكم الأموي كما فشل أبوه مِن قبْل إلا أن هاتين الثورتين مهدتا بصورةٍ غير مباشرة الطريق للقضاء على الدولة الأموية، واستغل العباسيون العطف الذي لقيه يحيى بن زيد في خراسان لكسب الأتباع والأنصار لهم، وحين قٌتل يحيى بن زيد ظل أهل خراسان يبكون بالليل والنهار (ثورة زيد بن علي لناجي حسن، والدولة الأموية للصلابي).
وبعد وفاة هشام بن عبد الملك عام 125هـ – 743م دبَّ الوهن والصراع داخل البيت الأموي نفسه، وكثر النزاع على العرش وولاية العهد، واتجهت الدولة نحو التصدع والانهيار، وبرز هذا التصدع منذ ولاية الوليد بن يزيد عام 125هـ، ثم يزيد بن الوليد بن عبد الملك عام 126هـ – 744م، ثم إبراهيم بن الوليد عام 126هـ – 744م، ثم مروان بن محمد عام 127هـ – 745م وعلى يديه سقطت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية عام 132هـ – 750م، وذلك بعد أكثر مِن تسعين عامًا حفلت بالفتوحات والأحداث الجسام.
ولقد أدت تلك الثورات الكثيرة إلى تصدع البيت الأموي وسقوط الدولة الأموية، وبذلك غربت شمس الأمويين التي سطعتْ على بلاد المسلمين أكثر مِن تسعين عامًا، حفلت بالفتوحات والأمجاد، وبرزت فيها الثورات، وأصبحت أعمالهم تاريخًا يقرأ وصفحات تطوى، وذكريات تحكى، ودروس وعظات، فسبحان مَن بيده الملك يؤتيه مَن يشاء، وينزعه ممَن يشاء، وهو على كل شيء قدير.
وهكذا التاريخ يعلمنا: أن التغيير له أصول وضوابط، فلابد مِن دراسة الواقع دراسة متأنية، ودراسة موازين القوى، والقدرة والعجز، والترجيح بيْن المصالح والمفاسد، فاحذروا مِن التهور والتسرع، واعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ولا شك أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وتاريخنا الإسلامي تاريخ مشرق في جملته، يمتلئ بالصفحات المشرقة رغم ما فيه مِن بعض الأحداث المؤلمة كبعض الأحداث التي وقعتْ في القرن الأول، فليس هناك أمة على وجه الأرض سار تاريخها على منوالٍ واحدٍ مِن الانتصارات والفتوحات والازدهار والحضارات المشرقة، فلكل أمة كبوة في فترةٍ مِن الزمن طالت أو قصرت.
إننا بحاجةٍ إلى إعادة صياغة التاريخ الإسلامي؛ لنبيِّن حسنات هذه الأمة ومظاهر حضارتها، ونعيد فتح صفحات أمجادها بعد أن قام البعض بتشويه تاريخ أمتنا؛ وذلك عن طريق دس الأكاذيب والضلالات والأخبار الموضوعة في بعض كتب التاريخ؛ مما أدى إلى تشويهه، فإن هذه الفترة التاريخية التي تناولتها في هذه السلسلة هي مِن أكثر الفترات التي تعرضت للتشويه وطمس الحقائق.
وإن الناظر والمتأمل في الأحداث بعين العدل والإنصاف يعلم علم اليقين أن مسألة الحٌكم مِن أشد الأمور تعقيدًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في نهاية عصر أمير المؤمنين عثمان، وفي مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: “وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ، فللبيئة مِن التأثير في الحاكم وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم من التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11).
ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية: أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لابد مِن مراعاة الواقع، والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، وتقدير مواطن القوة والضعف، ولابد مِن مراعاة المصالح العليا للعباد والبلاد، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ثم إن الواجب علينا في الفتنة بيْن الصحابة هو الإمساك عما شجر بيْن الصحابة إلا فيما يليق بهم -رضي الله عنهم-؛ لما يسببه الخوض في ذلك مِن توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين، ويجب على كل مسلمٍ أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم، ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم، وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهادٍ، والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده، وأن القاتل والمقتول مِن الصحابة في الجنة.
وقد سئل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عن القتال الذي حدث بيْن الصحابة، فقال: “تلك دماء طهر الله يدي منها فلا أحب أن أخضب بها لساني”.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: “واتفق أهل السُّنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ مِن الصحابة؛ بسبب ما وقع لهم مِن ذلك، ولو عرف الحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ”(1).
وختامًا: فهذا ما يسره الله لي مِن جمع وترتيب في هذه المقالات الخمسين، وما كان مِن خطأ أو زللٍ فمني ومِن الشيطان، وما كان مِن توفيقٍ فمِن الله وحده؛ فهو محض فضل الله عليَّ، فله الحمد حتى يرضى، وله الحمد عند الرضا، وله الحمد بعد الرضا، وإذا كان شرف العلم في موضوعه وغايته ومسائله وبراهينه وشدة الحاجة إليه، فإن بلوغ هذا الشرف درب طويل، وأمانة ثقيلة؛ نجاح أدائها هو شرف الدنيا وعز الأخرة، وبهذه الثورة نكون قد انتهينا -بفضل الله تعالى- مِن عرض جميع أحداث الفتن السياسية منذ الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وحتى مقتل زيد بن علي -رحمه الله-.
والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال ابن خلدون -رحمه الله-: “هذا هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السّلف مِن الصّحابة والتّابعين، فهم خيار الأمّة، وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمَن الذي يختصّ بالعدالة، والنّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) (متفق عليه)، مرّتين أو ثلاثا، فجعل الخيرة وهي العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والّذي يليه، فإيّاك أن تعوّد نفسك أو لسانك التّعرّض لأحدٍ منهم، ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم، والتمس لهم مذاهب الحقّ وطرقه ما استطعت، فهم أولى النّاس بذلك، وما اختلفوا إلّا عن بيّنةٍ، وما قاتلوا أو قتلوا إلّا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ، واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمَن بعدهم مِن الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمَن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله، فافهم ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه، واعلم أنه على كلّ شيء قدير، وإليه الملجأ والمصير، والله تعالى أعلم” (انظر مقدمة ابن خلدون، ص 272).