مقالات تاريخية

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (30) مقتل الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في عهد يزيد بن معاوية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تُمثِّل نقطة تحول في التاريخ؛ فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثَّرت حادثة مقتل الحسين -رضي الله عنه- على المجتمع الإسلامي بصفة عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفةٍ خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرونٍ طويلة، بل إلى يومنا هذا!

وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين، وقد ألقينا الضوء على وجهة نظر كبار الصحابة والتابعين حول مسألة خروج الحسين -رضي الله عنه- ونصائحهم له بعدم الخروج إلى الكوفة، وذكرنا الدوافع التي كانت وراء خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن وجهة نظره.

موقف يزيد مِن أحداث الكوفة:

لم يغب عن يزيد تحركات الحسين -رضي الله عنه-، وخروجه مِن المدينة رافضًا البيعة، واستقراره بمكة وعلاقته مع الكوفيين، لكنه كان يريد العمل بوصية أبيه معاوية مع الحسين -رضي الله عنه- وهي الرفق به؛ لذا لم يحرِّك يزيد ساكنًا مع معرفته بما يحدث، لكنه لما تأكد مِن تصميم الحسين -رضي الله عنه- على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين، قائلًا: “ونحسب أن رجالًا أتوه مِن المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة، وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة”.

ثم كتب بهذه الأبيات إليه، وإلى مَن بمكة والمدينة مِن قريش:

يا أيـهـا الـراكـب الــغـادي لـطـيـتـه                 على عُـذَافـرةِ فـي ســيــرها قـحــم

أبلغ قريـشًا على نـأي الـمـزار بهـا                 بيني وبين حـسيـن الـلـه والـرحــم

إلى أن قال:

يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خـمدت                 وأمسكوا بـجـبال السلم واعتصموا

لا تركبوا البغي إن البغي مـصرعه                 وإن شــارب كـأس الـبـغـي يـتـخـم

فـقـد غـرّت الـحـرب مَن كان قبلـكم                 مِن القرون وقـد بـادت بـهـا الأمـم

فـأنصـفـوا قـومكم لا تهلكوا بـذخــًا                 فــرب ذي بــذخ زلــت بــه الــقـدم

“طيته: أي: حاجته. عذافرة: الناقة الشديدة العظيمة. قحم: أي سريعة تطوى المنازل وتقتحمها منزلة بعد منزلة” (البداية والنهاية).

فكتب إليه ابن عباس -رضي الله عنهما-: “إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولستُ أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتُطفى به الثائرة” (سير أعلام النبلاء للذهبي).

وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعد ما أخذ الشيعة يلتفون حول مسلم بن عقيل ليبايعوا الحسين -رضي الله عنه-، وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس، وقال: “اتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال”. وقال: “إني لن أقتل مَن لم يقاتلني، ولن أثب على مَن لا يثب عليَّ، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون مَن يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل”.

ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله مِن ولاية الكوفة، وعين بدله عبيد الله بن زياد واليه على البصرة؛ وذلك لأن بعض المقربين مِن يزيد أخبروه أن النعمان يميل إلى السلم، وقد ظهر هذا في حديثه وخطبته، وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها، فلما نزل في القصر نودي: “الصلاة جامعة”؛ فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم، ووعد مَن أطاع منهم خيرًا، وتوعَّد مَن خالف وحاول الفتنة منهم شرًّا” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكان عبيد الله يتمتع بشخصية قوية، وقد بدأ بمراقبة وحصر الفئات المؤيدة لمسلم بن عقيل، والذين يؤمِّنون له السكن والمأوى والاجتماعات، وقد نجح عبيد الله بهذا في تحجيم تحركات مسلم بن عقيل، ونجح في ضبط الأمن في الكوفة، وبدأ الخوف يدب في قلوب بعض المؤيدين لابن عقيل، واستطاع عبيد الله أن يصل إلى مكان اختباء ابن عقيل (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وحرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات، واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل، وعلم بنزول مسلم بن عقيل في دار هانئ بن عروة (الأخبار الطوال للدينوري).

واستطاع عبيد الله بحيلة أن يأتي بهانئ في قصر الإمارة، وواجهه بما يعرف؛ فأنكر هانئ في البداية، لكنه اعترف بعد ذلك؛ لأنه أيقن أن عبيد الله علم بكل شيء، ثم قام عبيد الله فضرب وجهه، وهشم أنفه، وكسر حاجبه، وسال منه الدم وأمر به فأدخل بيتًا وتم سجنه فيه (أنساب الأشراف للبلاذري).

ولما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانئ بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حضروا أربعة آلاف رجل.

وتقدَّم مسلم بهذه الجموع صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد مِن أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه في القصر، وكان قد جمعهم عنده، فطلب منهم أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفوهم بقرب أهل الشام، وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون مِن العطاء، وسيساقون إلى الثغور، وسينالهم العقاب الشديد، ولم يكن التثبيط مقصورًا على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دور كبير في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم؛ إضافة إلى الآباء وكبار السن، فقد كان لهم نفس الدور، وكانت المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول: “انصرف، الناس يكفونك”، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه، ويقول: “غدًا يأتيك أهل الشام” فما تصنع بالحرب والشر، انصرف. (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وأمام هذه الإجراءات السريعة مِن ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية مَن انضموا إلى مسلم بن عقيل؛ أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلًا، ثم حدثت معركة بيْن الطرفين لم تدم طويلاً، ولما أمسى المساء تفرَّق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيدًا في طرقات الكوفة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ثم أمر ابن زياد بقتل مسلم، واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانئ فأخرج إلى السوق وقُتل، وظل هانئ يصيح لقبيلته، ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانئ ومسلم في سوق أمام الناس، ثم أمر بضرب أعناق اثنين مِن الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضًا!

وكان مسلم بن عقيل يدعو عليهم عند قتله، ويقول: “اللهم احكم بيننا وبيْن قوم غرٌّونا وكذبونا، ثم خذلونا وقتلونا”.

موقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه- ومعركة كربلاء:

خرج الحسين -رضي الله عنه- مِن مكة يوم التروية الموافق لثمان مِن ذي الحجة سنة ستين، وأدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف، فأرسل وفدًا إلى الحسين -رضي الله عنه-، وعلى رأسهم أخوه يحيى بن سعيد بن العاص، فحاولوا أن يثنوه عن عزمه، ولكنه رفض فنادوه: “يا حسين، ألا تتقي الله؟! تخرج عن جماعة المسلمين وتفرِّق بيْن هذه الأمة”، فردَّ الحسين -رضي الله عنه- بقول الله -تعالى-: (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:41)، فخرج الحسين -رضي الله عنه- متوجهًا إلى العراق في أهل بيته وستين شيخًا مِن أهل الكوفة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

وكتب مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد بن العاص إلى ابن زياد ينهيانه عن التعرض للحسين -رضي الله عنه-، وأن يكون حذرًا في تعامله مع الحسين -رضي الله عنه-؛ فهو الحسين ابن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا مِن الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء، ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك (الطبقات لابن سعد).

وفي الطريق إلى الكوفة: قابل الحسين -رضي الله عنه- “الفرزدق” الشاعر المشهور بذات عرق -ذات عرق على مرحلتين مِن مكة، وهو ميقات أهل العراق، وهو الحد بيْن نجد وتهامة-، فسأله الحسين بن علي -رضي الله عنهما- عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحًا أكثر، وقال: “هذه كتبهم معي”، فرد عليه الفرزدق: “يخذلونك؛ فلا تذهب، فإنك تأتي قومًا، قلوبهم معك وأيديهم عليك” (البداية والنهاية لابن كثير).

واستمر الحسين -رضي الله عنه- في مسيره إلى الكوفة، وهو لا يعلم شيئًا عن التغيرات التي حدثتْ، واتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بيْن أهل الكوفة وبيْن الحسين -رضي الله عنه-، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرَّق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم، ثم أصدر أوامره إلى الحصين بن تميم صاحب شرطته بأن يقبض على كل مَن ينكره، ثم أمر ابن زياد بمراقبة جميع الطرق ما بيْن مكة والشام والبصرة، وأرسل خيله إلى حدود الكوفة ومنافذها، ولم يترك أحدًا يدخل أو يخرج، وبهذا قطع الاتصالات بيْن الكوفة والحسين (البداية والنهاية لابن كثير).

وكانت لتلك الإجراءات الأمنية الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين -رضي الله عنه-، فهم يرون أن مَن كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل، وعلى أبشع صورة فأصبح مَن يفكر في نصرة الحسين -رضي الله عنه- فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم، ولما بلغ الحسين زبالة -زبالة: منزل معروف بطريق مكة مِن الكوفة بيْن واقصة والثعلبين-، وقيل: شراف -شراف: بيْن واقصة والقرعاء على ثمانية أميال مِن الإحساء-، جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته، وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين -رضي الله عنه-، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قُتلوا، وأهل الكوفة تخاذلوا في نصرته (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ولما بلغ الحسين -رضي الله عنه- مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه؛ أعلم الحسين مَن معه بذلك، وقال: “مَن أحب أن ينصرف فلينصرف”؛ فتفرق الناس عنه يمينًا وشمالًا، وقال له بعض مَن ثبتوا معه: “ننشدك الله إلا ما رجعت مِن مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك!”.

وهنا راجع الحسين أمره، وفكَّر في الوضع الراهن والواقع في الكوفة، وهمَّ أن يتراجع، وشاركه في رأيه ابنه الأكبر علي (الطبقات لابن سعد)، فوثب بنو عقيل إخوة مسلم، وقالوا: “والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم! ثم قال له بعض مِن حوله: إنك لست كمسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لأسرع الناس إليك” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

فواصل الحسين -رضي الله عنه- سيره، وكان ابن زياد قد أمر الحرّ بن يزيد -وكان يقود ألف فارس- أن يعسكر في شراف، وأن يلازم الحسين عندما يدركه، ولا يأذن له بالانصراف حتى يدخله الكوفة، وقد أدرك الحرُّ بن يزيد الحسين -رضي الله عنه- ومَن معه قريبًا مِن شراف، ولما طلب منه الحسين -رضي الله عنه- الرجوع منعه، وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة، وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقًا يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك مِن أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره.

وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية، واتجه شمالًا على طريق الشام، وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة، ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل، وكان الحسين -رضي الله عنه- يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة (تاريخ الرسل والملوك).

ولما وصل الحسين -رضي الله عنه- إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم (أنساب الأشراف للبلاذري)، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكونًا مِن أربعة آلاف مقاتل، ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، وبدأ الحسين بن علي -رضي الله عنهما- بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيّن الحسين أنه لم يأتِ إلى الكوفة إلا بطلبٍ مِن أهلها، وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، وأشار إلى حقيبتين كبيرتين تتضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين.

وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه مِن الحسين، وقال: “بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألتُه عما أقدمه، وماذا يطلب؟ فقال: كتب إليَّ أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم”، فلما قرئ على ابن زياد تمثـَّل قول الشاعر:

الآن إذا عـلـقــت مــخـالـبـنـا بــه                    يرجو النجاة ولات حين مـنـاص!

ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: “بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأيْنا رأينَا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب مِن تعنت، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة (تاريخ الرسل والملوك للطبري).

ورفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب مِن عمر بن سعد مقابلته، وعرض على عمر بن سعد عرضًا آخر يتمثـّل في إجابته واحدة مِن ثلاث نقاط:

 أ- أن يتركوه فيرجع مِن حيث أتى.

ب- وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام، فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.

جـ- وإما أن يسيّروه إلى أي ثغرٍ مِن ثغور المسلمين، فيكون واحدًا منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم (تاريخ الرسل والملوك).

وقد أكَّد الحسين -رضي الله عنه- موافقته للذهاب إلى يزيد، وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتابٍ أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة، وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد؛ لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالسًا في المجلس حين وصول الرسالة، فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيَّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب مِن الحسين أن ينزل على حكمه -أي ابن زياد- حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه.

فلما وصل الخبر إلى الحسين -رضي الله عنه- رفض الطلب، وقال: “لا والله، لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدًا!”، وقال لأصحابه الذين معه: “أنتم في حلٍّ مِن طاعتي”، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته، والمقاتلة معه حتى الشهادة. (تاريخ الرسل والملوك).

واتخذ ابن زياد إجراءً احترازيًّا حين خرج إلى النخيلة -النخيلة: تصغير نخلة، وهي موضع قرب الكوفة-، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحدًا يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص مِن الكوفة بدأوا يتسللون مِن الكوفة إلى الحسين (الطبقات لابن سعد)، وانضم الحر بن يزيد إلى الحسين ليكفر عن فعله، فهو الذي منع الحسين مِن الرجوع إلى المدينة، وانضم إليه أيضًا ثلاثون رجلًا مِن جيش عمر بن سعد.

وفي صباح يوم الجمعة مِن شهر المحرم عام 61 هـ-680م نظـَّم الحسين -رضي الله عنه- أصحابه، وعزم على القتال، وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا، وأربعون راجلًا،، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسين -رضي الله عنه- بحطبٍ وقصبٍ؛ فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم مِن خلفهم، وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكونًا مِن أربعة آلاف مقاتل، وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وكانت المقاومة شديدة مِن قِبَل أصحاب الحسين -رضي الله عنه-، حيث إن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة (تاريخ الرسل والملوك).

وكان الحسين -رضي الله عنه- في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه، ولما قٌتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله، وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين -رضي الله عنه- لم يبدِ شيئًا مِن الليونة، بل كان -رضي الله عنه- يقاتلهم بشجاعةٍ نادرة؛ عندئذٍ خشي شمر بن ذي الجوشن مِن انفلات زمام الأمور؛ فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه، ويُقال: إن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رٌقاد الجنبي، ويقال: إن المتولي للإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي(1)، ولا تعارض بيْن الروايات؛ فهؤلاء جميعًا اشتركوا في قتل الحسين -رضي الله عنه- (الشيباني، مواقف المعارضة في عهد يزيد بن معاوية)، ولكن الثابت: أن سنان بن أنس هو مَن قتله (المعجم الكبير للطبراني).

وكان قتله -رضي الله عنه- في محرم، في العاشر منه، سنة إحدى وستين، وقٌتل مع الحسين -رضي الله عنه- اثنان وسبعون رجلًا، وقتل مِن أصحاب عمر ثمان وثمانون رجلًا، وكان الذين قتلوا مع الحسين -رضي الله عنه- مِن آل أبي طالب، سبعة عشر شابًا، منهم خمسة مِن إخوته، وقٌتل مِن أولاده عبد الله وعلي الأكبر(2) (تاريخ الخلفاء للسيوطي)، وبعد انتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحدٌ بسوءٍ (الطبقات لابن سعد).

وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونسائه، ومَن كان معه الصبيان إلى ابن زياد، ولما وصل نساء الحسين وصبيانه أمر لهم بمنزلٍ في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة (أنساب الأشراف للبلاذري).

وهناك روايات كثيرة تتحدث عن صفة مقتله وتأثر الكون كله بمقتله -رضي الله عنه-، وعن الذلة والمهانة التي تعرض لها أهله ونساؤه بعد مقتله، وهذا كله كذب وباطل لم يثبت(3).

ونشير إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أخبر فيما روي عنه أن الحسين -رضي الله عنه- سيٌقتل بشط الفرات، وهذه مِن معجزات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-(4).

وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الرسل والملوك للطبري (6/ 355).

قلتُ: لقد قتل الحسين -رضي الله عنه- في يوم عاشوراء عام 61هـ، وقد قٌتل عبيد الله بن زياد المتحمل ا?ول لدم الحسين أيضًا في يوم عاشوراء عام 67هـ على يد إبراهيم بن ا?شتر الذي قطع رأس ابن زياد وأرسل بها إلى المختار الثقفي، وتم تتبع كل مَن شاركوا في قتل الحسين -رضي الله عنه-، وتم قتل معظمهم في الكوفة.

(2) علي الأكبر غير عليّ زين العابدين؛ لأنه كان عنده علي الأصغر، وعلي الأكبر، وعبد الله. ومِن أبناء أبناء الحسن، قُتل: عبد الله، والقاسم، وأبو بكر. ومِن أولاد عقيل قُتل: جعفر، وعبد الله، وعبد الرحمن. ومسلم بن عقيل قُتل بالكوفة، وعبد الله بن مسلم. ومِن أولاد عبد الله بن جعفر، قُتل: عون ومحمد. فقيل: قٌتل ثمانية عشر رجلًا كلهم مِن بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قتلوا في هذه المعركة. (تاريخ خليفة بن خياط ص234).

(3) وليس صحيحًا كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيءٍ صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزلٍ في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقًا، وأمر لهن بنفقةٍ وكسوة.

وقال ابن تيمية -رحمه الله- في رده على بعض كذابي الشيعة: “وأما ما ذكره مِن سبي نسائه، والدوران بهن على البلدان، وحملهن على الجمال بغير أقتاب؛ فهذا كذب وباطل، وما سبى المسلمون -ولله الحمدـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرًا”.

بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت؟ أو ماذا ركبت؟ وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: “لوددتُ والله أنه ليس مِن بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسينًا لم يُقتل!” فلا ينكر عليه عبيد الله قوله.

وقال ابن كثير -رحمه الله-: “ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبًا فاحشًا، مِن كون الشمس كُسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضًا، وأمطرت السماء دمًا أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبْل يومئذٍ، ونحو ذلك.

وروى ابن لهيعة عن أبي قبيل المعافري: أن الشمس كسفت يومئذٍ حتى بدت النجوم وقت الظهر، وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دمًا، وأن الأرض أظلمتْ ثلاثة أيام، ولم يمس زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذٍ إلا احترق مِن مسه، ولم يرفع حجر مِن حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها مِن إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم! إلى غير ذلك مِن الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء” (البداية والنهاية 8/ 2019).

(4) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُجَيٍّ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَارَ مَعَ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- وَكَانَ صَاحِبَ مِطْهَرَتِهِ, فَلَمَّا حَاذَى نِينَوَى وَهو مُنْطَلِقٌ إِلَى صِفِّينَ, نَادَى عَلِيٌّ -رضي الله عنه- بِشَطِّ الْفُرَاتِ: اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ, اصْبِرْ أَبَا عَبْدِ اللهِ, ثُمَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ, فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَغْضَبَكَ أَحَدٌ؟ مَا شَأنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ فَقَالَ: (بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ, فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ, فَقَالَ: هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ, فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا, فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا) (رواه أحمد، وقال الألباني: هذا إسناد ضعيف، نجي والد عبد الله لا يدرى مَن هو، كما قال الذهبي، ولم يوثقه غير ابن حبان، وابنه أشهر منه، فمَن صحح هذا الإسناد فقد وهم. والحديث، قال الهيثمي (9/ 187): “رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، ورجاله ثقات، ولم ينفرد نجي بهذا. قال الألباني. يعني أن له شواهد تقويه، وهو كذلك).

وعن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن عائشة أو أم سلمة، قال وكيع: شك هو -يعني عبد الله بن سعيد- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لإحداهما: (لَقَدْ دَخَلَ عَلَيَّ الْبَيْتَ مَلَكٌ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيَّ قَبْلَهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّ ابْنَكَ هَذَا حُسَيْنٌ مَقْتُولٌ، وَإِنْ شِئْتَ أَرَيْتُكَ مِنْ تُرْبَةِ الْأَرْضِ الَّتِي يُقْتَلُ بِهَا، قَالَ: فَأَخْرَجَ تُرْبَةً حَمْرَاءَ) (رواه أحمد، وقال الألباني: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين).

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

grandpashabet
grandpashabet
Grandpashabet
Grandpashabet
hacklink