مقالات تاريخية

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (29) معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- في عهد يزيد بن معاوية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

وفاة معاوية ومعارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهم-:

تُمثـِّل معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية نقطة تحول في التاريخ، فهي تٌعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفة عامة وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدةٍ قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا، وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين، وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض، وشاركه في المعارضة عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-.

والسبب في ذلك: حرصهما على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، وتلك الممانعة الشديدة مِن قِبَل الحسين وابن الزبير -رضي الله عنهم-، قد عبَّرت عن نفسها بشكلٍ عملي فيما بعد، فالحسين -رضي الله عنه- كما مر سابقًا، كان معارضًا للصلح بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، والذي حمله على قبوله هو متابعة أخيه الحسن بن علي، ثم إن الحسين بن علي استمر على صِلاته بأهل الكوفة، وقد كان يعدهم بالمعارضة، ولكن بعد وفاة معاوية، والدليل على ذلك أنه بمجرد وفاة معاوية سارع زعماء الكوفة بالكتابة إلى الحسين، وطلبوا منه المسير إليهم على وجه السرعة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني، ص 180).

والذي يبدو أن أهل الكوفة كانوا يتخيلون ويتوقعون أن المرشح الأقوى للخلافة بعد معاوية هو الحسين -رضي الله عنه- (أنساب الأشراف للبلاذري 3/ 152)، وكان معاوية -رضي الله عنه- دائم الصلة بالحسين، وكان يوقره ويكرمه، ويغدق له في العطاء، وقيل: إنه أعطاه مرة أربعمائة ألف (المصنف لابن أبي شيبة، وانظر المصدر السابق).

وقد أوصى معاوية -رضي الله عنه- ابنه يزيد، فقال له: “انظر حسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه أحب الناس إلى الناس؛ فصل رحمه، وارفق به يصلح لك أمره؛ فإن يك منه شيء فإني أرجو أن يكفيكه الله بمَن قتل أباه، وخذل أخاه” (الطبقات لابن سعد 1/ 244).

وقد كانت هناك وصية جامعة مِن معاوية لابنه يزيد، قال عوانة: “قد سمعنا أن معاوية لما حضره الموت -وذلك في سنة ستين- وكان يزيد غائبًا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري -وكان صاحب شرطته- ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما، فقال: بلغا يزيد وصيتي، انظر أهل الحجاز فإنهم أصلك؛ فأكرم مَن قدم عليك منهم، وتعاهد مَن غاب، وانظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً؛ فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي مِن أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء مِن عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لستُ أخاف مِن قريش إلا ثلاثة: حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمسًا شيئًا قبلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحمًا ماسة، وحقـًّا عظيمًا، وقرابة مِن محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خب -الخب: الخداع- ضب، فإذا شخص لك فالبد له -أي تعامل معه بحزم وحرص-؛ إلا أن يلتمس منك صلحًا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت” (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 523).

وهكذا رسم معاوية -رضي الله عنه- ليزيد سياسة التعامل مع الأقاليم المختلفة، وكذلك بعض الأشخاص أيضًا، وبالفعل توافدت الرسائل مِن زعماء الكوفة على الحسين -رضي الله عنه-، والتي تطلب منه المسارعة في القدوم إليهم، ولما كان العدد مشجعًا، أراد أن يطلع على حقيقة الأمر، فبعث ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستجلي له حقيقة الخبر، ثم يكتب إليه بواقع الحال، فإن كان ما يقولون حقـًّا قدِم عليهم، ولما بلغ أهل الكوفة قدوم مسلم بن عقيل قدموا إليه، فبايعه اثنا عشر ألفًا” (تاريخ دمشق لابن عساكر).

وتمتْ تلك المبايعة بصورة سرية، ولما تأكد لمسلم بن عقيل رغبة أهل الكوفة في الحسين وقدومه إليهم، كتب إلى الحسين: إن جميع أهل الكوفة معك فأقبل حين تنظر في كتابي، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة، وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا مِن قبْل، فلما وصل إلى الحسين بن علي كتاب مسلم بن عقيل، والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة، وأن الأمر مهيأ لقدومه؛ تجهز الحسين بن علي، وعزم على المضي إلى الكوفة بأهله وخاصته.

نصائح الصحابة والتابعين إلى الحسين بعدم الخروج إلى الكوفة: 

لا شك أن مسألة خروج الحسين -رضي الله عنه- على يزيد كانت محل جدال وخلاف بيْن الكثيرين(1)، وقد حرص كثيرٌ مِن الصحابة على منع الحسين مِن الخروج لكنه أبى.

ومِن الذين عارضوا خروج الحسين -رضي الله عنه-:

محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدِم عليه، وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولستُ أدخر النصيحة لأحدٍ مِن الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لكَ حمدنا الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرًا مِن هذه الأمصار وتأتي جماعة مِن الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك؛ فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضًا، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسًا، وأبًا وأمًا، أضيعها دمًا، وأذلها أهلًا، فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجتَ مِن بلدٍ إلى بلدٍ حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأيًا، وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبدًا أشكل منها حين تستدبرها استدبارًا، قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت، وأرجو أن يكون رأيك سديدًا” (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 341).

ومِن الصحابة الذين عارضوا خروج الحسين -رضي الله عنه-:

عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس، أتاه وقال: “يا ابن عم إنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين -إن شاء الله تعالى-. فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين: إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك مِن كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج، ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك؛ لذا جاء ابن عباس إلى الحسين مِن الغد، فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا أصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، إن أهل العراق قوم غدر؛ فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونًا وشعابًا، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائرًا؛ فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان، ونساؤه وولده ينظرون إليه” (تاريخ دمشق لابن عساكر).

عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-: وقد اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة، وهو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره مِن مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة، وقد نصح الحسين قائلاً: “أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك، وطعنوا أخاك؟! فقال له الحسين: لأن أقتل بمكان كذا وكذا، أحب إلي مِن أن تستحل بي -يعني مكة-” (المصنف لابن أبي شيبة 15/ 95).

عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: فقد نصح الحسين -رضي الله عنه- في أكثر مِن موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما، وقال: “أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان” (الطبقات لابن سعد).

ولما قدِم المدينة، وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين، فقال: “أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم. قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خيَّر نبيه بيْن الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبدًا، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله مِن قتيل” (سير أعلام النبلاء 3/ 292).

وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول بعد ذلك: “غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى مِن الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش، وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير” (مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر 7/ 138).

وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيُقدِم عليه الحسين -رضي الله عنه- بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذير شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأيٍ مِن الطرفين.

ومِن هؤلاء:

– أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- حيث قال: “غلبني الحسين على الخروج، وقد قلتُ له: اتقِ الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك” (البداية والنهاية لابن كثير).

– وقال جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: “كلمتُ حسينًا، فقلتُ له: اتقِ الله، ولا تضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني” (الطبقات لابن سعد).

ولم تتوقف المحاولات الهادفة بيْن الحسين -رضي الله عنه- وبيْن خروجه إلى الكوفة؛ فكتب إليه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنهما-: “أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك مِن الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك” (تاريخ الأمم والملوك للطبري).

ولكن الحسين -رضي الله عنه- رفض الرجوع، وقد حاول كثيرٌ مِن أهل الرأي والحكمة منع الحسين -رضي الله عنه-، وكتب إليه المسور بن مخرمة -رضي الله عنه- وأبو واقد الليثي، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبد الله بن مطيع، وسعيد بن المسيب، وعمرو بن سعيد بن العاص، وابن عياش، ويزيد بن الأصم، والأحنف بن قيس، وعمرة بنت عبد الرحمن، وغيرهم.

ومِن الملاحظ: إجماع كل مَن نصح الحسين -رضي الله عنه- على ألا يخرج للعراق، ولا يثق في أهل الكوفة، وإجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم، وكذلك يلفت الانتباه: إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك مِن أسفهم عليه، وكلمات التوديع له؛ وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين مِن العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق مِن أحداثٍ جَرَت إبان الفتنة بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما- عرفوا مِن خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة مِن إثارة الإحن ودوام الفتن. (الدولة الأموية: عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار ص 465).

وكل هذه النصائح لم تؤثِّر على الحسين -رضي الله عنه- في قراره بالخروج إلى الكوفة، فعقد العزم على الخروج، وأخذ يجهز نفسه وأهل بيته للخروج، وبالفعل خرج في يوم التروية “الثامن مِن ذي الحجة” سنة 60 هـ – 680م، وخرج معه أهل بيته، وقيل خرج معه ستون شيخ مِن أهل الكوفة،.

وهنا تكررت بعض المحاولات مِن كثيرٍ مِن الناصحين أثناء سير الحسين -رضي الله عنه- إلى الكوفة، ولكنها دون جدوى؛ فالحسين رغم كل ما سمعه مِن المقربين المخلصين لا يتراجع عن قراره؛ فهذا قدر الله وهذا حكمته، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.

ولعل مِن الأسباب التي جعلت الحسين -رضي الله عنه- لا يتراجع عن رأيه: هو الواقع الذي يراه الحسين -رضي الله عنه-، فيزيد لن يترك الحسين هكذا دون بيعة، وربما توقع الحسين أن يزيد سيحمله على البيعة في أقرب وقت ممكن، ولن يرضى أن تكون له حرية التصرف دون بيعة، ولعل الحسين -رضي الله عنه- شعر بالحرج مِن وجوده في مكةٍ دون بيعة الخليفة، دون أن يكون له ما يبرر موقفه بشكلٍ واضح.

أضف إلى ذلك: الخوف مِن تأصيل القيصرية والهرقلية والتوريث في الأمة، وهذا يعد مِن أنواع الفساد بلا شك، وكان موقف الحسين مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارض منذ البداية.

والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، ثم الصورة المشجعة التي نقلها له ابن عمه مسلم ابن عقيل لحالة الكوفة، وأن أهلها جميعًا ينتظرون الحسين، والنصر يتوقف على حضور الحسين فقط، فربما كانت هذه بعض الأسباب التي جعلت الحسين -رضي الله عنه- اتخذ قراره بلا رجعة. والله أعلى وأعلم. (مواقف المعارضة في خلافة يزيد، للشيباني، ص 302).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “إن الله -تعالى- بعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تولى خليفة مِن الخلفاء: كيزيد، وعبد الملك، والمنصور، وغيرهم؛ فإما أن يُقال: يجب منعه مِن الولاية وقتاله حتى يُولى غيره كما يفعله مَن يرى السيف، فهذا رأى فاسد؛ فإن مفسدة هذا أعظم مِن مصلحته، وقلَّ مَن خرج على إمامٍ ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله مِن الشر أعظم مما تولد مِن الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء إما أن يُغلبوا، وإما أن يَغلبوا ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي، وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم؛ فهُزموا وهُزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا.

والله -تعالى- لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك مِن أولياء الله المتقين، ومِن أهل الجنة؛ فليسوا أفضل مِن علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يُحمد ما فعلوه مِن القتال، وهم أعظم قدْرًا عند الله وأحسن نية مِن غيرهم” (منهاج السُّنة).

زر الذهاب إلى الأعلى