المقالاتمقالات تاريخية

د. زين العابدين كامل: هارون الرشيد.. الخليفة الذي أنصفه التاريخ وظلمه الأقزام!!

هارون الرشيد.. الخليفة الذي أنصفه التاريخ وظلمه الأقزام!!

هو أبو جعفر هارون بن محمد المهدي، وأمه الخيزران، أم ولد، بويع له بالخلافة بعد وفاة أخيه الهادي في شهر ربيع الأول عام (‎170‏ه/ 786م) بعهد من أبيه المهدي وعمره خمسة وعشرين عاماً، وقيل اثنين وعشرين ([1])، فكان من أصغر الخلفاء العباسيين سنًا، وكان يعاصره في الأندلس الأمير عبد الرحمن الداخل، ثم هشام بن عبد الرحمن ثم الحكم بن هشام.

وكان يعاصره في المغرب الأقصى إدريس بن عبد الله بن الحسن، وفي فرنسا شارلمان، وفي مملكة الروم بالقسطنطينية قسطنطين السادس ثم أمه رِينِي ثم نَقْفُور كلب الروم ([2]).

مناقب ومآثر هارون الرشيد:

لقد حاول أعداء الأمة أن يشوهوا تاريخنا، وأن يطمسوا حضارتنا، وأن يطعنوا في عظماء المسلمين، ولذا رسموا صورة مزورة ومزيفة لهارون الرشيد؛ صوروه على أنه عاش حياته بين شرب الخمر وأحضان الجواري، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية.

وقد ساعد على ذلك بعض النقولات من الروايات التاريخية التي لم تثبت.

يُعتبر هارون الرشيد من أعظم خلفاء بني العباس، وأكثرهم ذكرًا في التاريخ العباسي، فلقد ذاع صيته وعلت شهرته على غيره من خلفاء بني العباسي، حتى أن المصادر الأجنبية أيضًا قد أكثرت من ذكر أخباره وأيامه، وقد تناول المؤرخون في الشرق والغرب سيرته بالتحليل والدراسة.

لم يذق هارون الرشيد عنت الأيام وشدتها، ولم يتعرض للمحن والشدائد والتجارب كما حدث مع جده المنصور، سوى محنته في أمر ولاية العهد. فلقد وُلد هارون في قصور الترف، وكانت الأيدي تتسارع وتتسابق إليه لخدمته، وقدكان هارون الرشيد يتمتع بقدر كبير من النجابة والفطنة والذكاء مُنذ صغره، ولذا كان أبوه يفكر في أن يرشحه للخلافة من بعده، وقد كانت الخيزران ترغب في ذلك أيضًا، لأنها كانت تؤثره على أخيه الهادي.

وكان هارون يجمع بين كثير من الصفات القيادية، فلقد كان مؤهلًا للقيادة منذ أن كان شابًا، فهو سياسي مخضرم، يجمع بين الحزم والشدة واللين والمرونة، وكان أحيانًا يغضب ويفرط في الانتقام، وتراه أحيانًا يبكي وترق مشاعره وتظهر رقة قلبه ورحمته،كان شديد الاهتمام بشؤون الرعية، يطوف في الأسواق ويغشى المجالس متنكراً ليقف على أحوال الناس. وقد كان هارون الرشيد متديناً، ورعاً، محافظاً على الفرائض والواجبات الشرعية، متمسكاً بنصوص الكتاب والسنة، وكان يحج إن لم يغزُ، فهو بين حج وغزو طيلة حياته، وذكروا أنه كان يصلي في اليوم مائة ركعة، وحج ماشياً ولم يحج ماشياً خليفة غيره ([3]).

ولعل من المناسب في هذا المقام أن نذكر بعض ما ذكره المؤرخون الأوائل عن هارون الرشيد ومآثره وفضائله وأحواله، جاء في تاريخ الطبري ” كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال، فإنه لم يُر خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لا نتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي”([4]).

وجاء في سير أعلام النبلاء ” قيل إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات، ويتصدق بألف، وكان يحب العلماء، ويعظم حرمات الدين ويبغض الجدال والكلام، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لا سيما إذا وعظ، وكان يحب المديح ويجيز الشعراء، ووعظه الفضيل مرة حتى شهق في بكائه، ولما بلغه موت ابن المبارك حزن عليه، وجلس للعزاء فعزاه الأكابر، قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي -صلى الله عليه وسلم- بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي، ورويت له حديث وددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل ثم أحيى ثم أقتل فبكى حتى انتحب، وعن أبي معاوية الضرير قال: صب على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من يصب عليك? قلت: لا، قال: أنا، إجلالًا للعلم، وقال الفضيل بن عياض: ما من نفس تموت أشد علي موتًا من أمير المؤمنين هارون، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره، قال: فكبر ذلك علينا، فلما مات هارون، وظهرت الفتن وكان من المأمون ما حمل الناس على خلق القرآن، قلنا: الشيخ كان أعلم بما تكلم” ([5])، وقيل أنه اعتمر في رمضان، واستمر على إحرامه إلى أن حج ماشيا من بطن مكة،([6]). وجاء في البداية والنهاية لابن كثير: ” وَقَالَ لَهُ ابْنُ السماك يوما: إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، وَالْوُقُوفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حِينَ يُؤْخَذُ بِالْكَظَمِ وتزل المقدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل، وَلَا عَثْرَةَ تُقَالُ، وَلَا يُقْبَلُ فِدَاءٌ بِمَالٍ. فَجَعَلَ الرَّشِيدُ يَبْكِي حَتَّى عَلَا صَوْتُهُ فَقَالَ يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ لَهُ: يَا ابْنَ السِّمَاكِ! لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ اللَّيْلَةَ. فَقَامَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَبْكِي. وَقَالَ لَهُ الفضيل بن عياض- في كلام كثير ليلة وعظه بِمَكَّةَ-: يَا صَبِيحَ الْوَجْهِ إِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ} قَالَ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: الْوُصَلَاتُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا. فَبَكَى حَتَّى جَعَلَ يشهق”.

وَقَالَ الفضيل: ” اسْتَدْعَانِي الرَّشِيدُ يَوْمًا وَقَدْ زَخْرَفَ مَنَازِلَهُ وَأَكْثَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَاللَّذَّاتِ فِيهَا، ثُمَّ اسْتَدْعَى أَبَا الْعَتَاهِيَةِ فَقَالَ لَهُ: صِفْ لَنَا مَا نَحْنُ فيه من العيش والنعم فقال:

عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا … فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ

يَسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْ … تَ لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ

فَإِذَا النُّفُوسُ تَقَعْقَعَتْ … … عَنْ ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ

فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا ……… مَا كُنْتَ إِلَّا فِي غُرُورِ

قال: فبكى الرشيد بكاءً كثيراً شديداً، فقال له الفضل بن يحيى: دعاك أمير المؤمنين تسره فَأَحْزَنْتَهُ؟ فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: دَعْهُ فَإِنَّهُ رَآنَا فِي عَمًى فَكَرِهَ أَنْ يَزِيدَنَا عَمًى”.

وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ السِّمَاكِ يَوْمًا فَاسْتَسْقَى الرَّشِيدُ فَأُتِيَ بِقُلَّةٍ فِيهَا مَاءٌ مُبَرَّدٌ فَقَالَ لِابْنِ السِّمَاكِ: عِظْنِي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! بِكُمْ كُنْتَ مُشْتَرِيًا هَذِهِ الشَّرْبَةَ لَوْ مُنِعْتَهَا؟ فَقَالَ: بِنِصْفِ مُلْكِي؛ فَقَالَ: اشْرَبْ هَنِيئًا، فَلَمَّا شَرِبَ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ مُنِعْتَ خُرُوجَهَا مِنْ بَدَنِكَ بكم كنت تشتري ذلك؟ قال بنصف ملكي الآخر، فقال: إِنَّ مُلْكًا قِيمَتُهُ شَرْبَةُ مَاءٍ، وقيمة نصفه الآخر بولة، لَخَلِيقٌ أَنْ لَا يُتَنَافَسَ فِيهِ. فَبَكَى هَارُونُ ([7]).

وقال الفَضْلُ بنُ الرَّبِيْعِ:حَجَّ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ هَارُوْنَ؛ فَقَالَ لِي: وَيْحَكَ! قَدْ حَكَّ فِي نَفْسِي شَيْءٌ، فَانْظُرْ لِي رَجُلاً أَسْأَلْهُ، فَقُلْتُ: هَا هُنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ، فَقَالَ: امضِ بِنَا إِلَيْهِ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعتُ بَابَه، فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: أَجِبْ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، فَخَرَجَ مُسْرِعاً، فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! لَوْ أَرْسَلتَ إِلَيَّ، أَتَيْتُكَ، فَقَالَ: خُذْ لِمَا جِئْتُكَ لَهُ، فَحَدَّثَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَينٌ؟قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لِي: اقْضِ دَيْنَهُ، فَلَمَّا خَرَجْنَا، قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُكَ شَيْئاً، قُلْتُ: هَا هُنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: امضِ بِنَا إِلَيْهِ، فأَتَيْنَاهُ، فَقَرَعتُ البَابَ، فَخَرَجَ، وَحَادَثَه سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: عَلَيْكَ دَينٌ؟قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَبَا عَبَّاسٍ! اقْضِ دَيْنَهُ، فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ: مَا أَغْنَى عَنِّي صَاحِبُك شَيْئاً، انْظُرْ لِي رَجُلاً أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: هَا هُنَا الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ، قَالَ: امْضِ بِنَا إِلَيْهِ،

فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَتْلُو آيَةً يُرَدِّدُهَا، فَقَالَ: اقْرَعِ البَابَ، فَقَرَعتُ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ: أَجِبْ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ، قَالَ: مَا لِي وَلأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ؟ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ! أَمَا عَلَيْكَ طَاعَةٌ؟ فَنَزَلَ، فَفَتَحَ البَابَ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى الغُرفَةِ، فَأَطْفَأَ السِّرَاجَ، ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى زَاوِيَةٍ، فَدَخَلْنَا، فَجَعَلْنَا نَجُولُ عَلَيْهِ بِأَيْدِيْنَا، فَسَبَقَتْ كَفُّ هَارُوْنَ قَبْلِي إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا لَهَا مِنْ كَفٍّ مَا أَلْيَنَهَا إِنْ نَجَتْ غَداً مِنْ عَذَابِ اللهِ!؛ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَيُكَلِّمَنَّهُ اللَّيْلَةَ بِكَلاَمٍ نَقِيٍّ مِنْ قَلْبٍ تَقِيٍّ، فَقَالَ لَهُ: خُذْ لِمَا جِئنَاكَ لَهُ – رَحِمَكَ اللهُ؛ فَقَالَ: إِنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزِيْزِ لَمَّا وَلِيَ الخِلاَفَةَ، دَعَا سَالِمَ بنَ عَبْدِ اللهِ، وَمُحَمَّدَ بنَ كَعْبٍ، وَرَجَاءَ بنَ حَيْوَةَ، فَقَالَ لَهُم: إِنِّيْ قَدِ ابْتُلِيتُ بِهَذَا البَلاَءِ، فَأَشِيْرُوا عَلَيَّ، فَعَدَّ الخِلاَفَةَ بَلاَءً، وَعَدَدْتَهَا أَنْتَ وَأَصْحَابَك نِعمَةً، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ فَصُمِ الدُّنْيَا، وَلْيَكُنْ إِفْطَارُكَ مِنْهَا المَوْتَ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ كَعْبٍ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَلْيَكُنْ كَبِيْرُ المُسْلِمِيْنَ عِنْدَك أَباً، وَأَوْسَطُهُم أَخاً، وَأَصْغَرُهُم وَلداً، فَوَقِّرْ أَبَاكَ، وَأَكْرِمْ أَخَاكَ، وَتَحَنَّنْ عَلَى وَلَدِكَ، وَقَالَ لَهُ رَجَاءٌ: إِنْ أَرَدْتَ النَّجَاةَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، فَأَحِبَّ لِلْمُسْلِمِيْنَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُم مَا تَكرَهُ لِنَفْسِكَ، ثُمَّ مُتْ إِذَا شِئْتَ، وَإِنِّيْ أَقُوْلُ لَكَ هَذَا، وَإِنِّيْ أَخَافُ عَلَيْكَ أَشَدَّ الخَوْفِ يَوْماً تَزِلُّ فِيْهِ الأَقْدَامُ، فَهَلْ مَعَكَ – رَحِمَكَ اللهُ – من يُشِيْرُ عَلَيْكَ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَبَكَى بُكَاءً شَدِيْداً، حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُ: ارْفُقْ بِأَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ الرَّبِيْعِ، تَقْتُلُهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُك، وَأَرْفُقُ بِهِ أَنَا، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ لَهُ: زِدْنِي – رَحِمَكَ اللهُ -،

قُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّ عَامِلاً لِعُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيْزِ شُكِيَ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: يَا أَخِي! أُذَكِّرُكَ طُوْلَ سَهِرِ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، مَعَ خُلُوْدِ الأَبَدِ، وَإِيَّاكَ أَنْ يُنْصَرَفَ بِكَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَيَكُوْنُ آخِرَ العَهدِ، وَانقِطَاعَ الرَّجَاءِ، فَلَمَّا قَرَأَ الكِتَابَ، طَوَى البِلاَدَ، حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: خَلَعتَ قَلْبِي بِكِتَابِكَ، لاَ أَعُوْدُ إِلَى وِلاَيَةٍ حَتَّى أَلْقَى اللهَ، فَبَكَى هَارُوْنُ بُكَاءً شَدِيْداً؛ فَقَالَ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ! إِنَّ العَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَمِّرْنِي؛ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لاَ تَكُوْنَ أَمِيْراً، فَافْعَلْ؛ فَبَكَى هَارُوْنُ، وَقَالَ: زِدْنِي، قَالَ: يَا حَسَنَ الوَجْهِ، أَنْتَ الَّذِي يَسْأَلُكَ اللهُ عَنْ هَذَا الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَقِيَ هَذَا الوَجْهَ مِنَ النَّارِ، فَافْعَلْ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمسِيَ وَفِي قَلْبِكَ غِشٌّ لأَحَدٍ مِنْ رَعِيَّتِك، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَنْ أَصْبَحَ لَهُم غَاشّاً، لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، فَبَكَى هَارُوْنُ، وَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دَينٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، دَينٌ لِرَبِّي، لَمْ يُحَاسِبْنِي عَلَيْهِ، فَالوَيْلُ لِي إِنْ سَاءلَنِي، وَالوَيلُ لِي إِنْ نَاقَشَنِي، وَالوَيلُ لِي إِنْ لَمْ أُلْهَم حُجَّتِي، قَالَ: إِنَّمَا أَعْنِي مِنْ دَينِ العِبَادِ، قَالَ: إِنَّ رَبِّي لَمْ يَأْمُرْنِي بِهَذَا، أَمَرَنِي أَنْ أَصْدُقَ وَعْدَهُ، وَأُطِيْعَ أَمْرَهُ، فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُوْنَ} [الذَّارِيَاتُ: 56]، فَقَالَ: هَذِهِ أَلفُ دِيْنَارٍ، خُذْهَا، فَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ، وَتَقَوَّ بِهَا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! أَنَا أَدُلُّكَ عَلَى طَرِيْقِ النَّجَاةِ، وَأَنْتَ تُكَافِئُنِي بِمِثلِ هَذَا، سَلَّمَكَ اللهُ، وَوَفَّقَكَ، ثُمَّ صَمَتَ، فَلَمْ يُكَلِّمْنَا؛ فَخَرَجْنَا، فَقَالَ هَارُوْنُ: أَبَا عَبَّاسٍ! إِذَا دَلَلْتَنِي، فَدُلَّنِي عَلَى مِثْلِ هَذَا، هَذَا سَيِّدُ المُسْلِمِيْنَ؛ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ مِنْ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: قَدْ تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ مِنَ الضِّيقِ، فَلَو قَبِلْتَ هَذَا المَالَ،

قَالَ: إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُم، كَمَثَلِ قَوْمٍ لَهُم بَعِيْرٌ يَأْكلُوْنَ مِنْ كَسْبِهِ، فَلَمَّا كَبِرَ نَحَرُوهُ، فَأَكَلُوا لَحْمَهُ، فَلَمَّا سَمِعَ هَارُوْنُ هَذَا الكَلاَمَ، قَالَ: نَدْخُلُ، فَعَسَى أَنْ يَقْبَلَ المَالَ، فَلَمَّا عَلِمَ الفُضَيْلُ، خَرَجَ، فَجَلَسَ فِي السَّطحِ عَلَى بَابِ الغُرفَةِ، فَجَاءَ هَارُوْنُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُهُ، فَلاَ يُجِيْبُهُ، فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ، فَقَالَتْ: يَا هَذَا! قَدْ آذَيْتَ الشَّيْخَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَانْصَرِفْ، فَانْصَرَفْنَا ([8]).

وقال السيوطي: وقال القاضي الفاضل في بعض رسائله: ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد، فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطأ على مالك -رحمه الله-([9]).

ويُصرح ابن تيمية أن الإسلام قوي في عصر الرشيد، قال ابن تيمية “وتجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك مثل: دولة المهدي والرشيد ونحوهما ممن كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل، فإن المهدي قتل من المنافقين الزنادقة من لا يحصي عدده إلا الله، والرشيد كان كثير الغزو والحج ([10]).

وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: أخذ هارون الرشيد زنديقًا فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين، قال أريح العباد منك، قال فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا([11]).

فهذا هو هارون الرشيد، الذي طأطأ الروم رؤوسهم له، وأحنوا هاماتهم رهبة منه، ذلك الرجل الذي حاول أعداء تاريخنا و أذنابهم أن يصوروه بصورة شارب الخمر الماجن، صاحب الجواري، مع أنه كان من أعظم خلفاء الدولة العباسية جهادًا وغزوًا واهتمامًا بالعلم والعلماء كما ذكرنا.

قال عنه الذهبي” وَكَانَ مِنْ أَنبَلِ الخُلَفَاءِ، وَأَحشَمِ المُلُوْكِ، ذَا حَجٍّ، وَجِهَادٍ، وَغَزْوٍ، وَشَجَاعَةٍ، وَرَأْيٍ”([12]).

وبالرغم من هذا كله أشاعوا عنه الأكاذيب وأنه لاهم له سوى الجواري والخمر والسكر، ونسجوا في ذلك القصص الخرافية والحكايات الواهية، وما ذلك إلا لأنه كان أعظم خلفاء بني العباس.

ومما لا شك فيه أن عصر هارون الرشيد، يُعتبر العصر الذهبي لدولة الخلافة العباسية، فقد بلغت في عهده درجة لم تصل إليها من قبل، فأصبحت مركز التجارة العالمية، وكعبة رجال العلم والأدب، أما شخصيته فتمثل تاريخ عصر أكثر مما تمثل تاريخ إنسان([13]).

هذا وقد وصلت بغداد في عصر هارون الرشيد إلى قمة مجدها ومنتهى فخرها، حيث كانت تناطح عواصم العالم، في حركة التجارة، والفنون والعلوم المختلفة، والبناء والتشييد.

وفاة هارون الرشيد:

قال ابن كثير: وَقَدْ أَمَرَ بِحَفْرِ قَبْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، وَهِيَ دَارُ حُمَيْدِ بْنِ أَبِي غَانِمٍ الطَّائِيِّ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى قبره وهو يقول: يا بن آدم تصير إلى هذا. ثم أمر أن يقرأوا القرآن في قبره، فقرأوه حَتَّى خَتَمُوهُ وَهُوَ فِي مَحَفَّةٍ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ احْتَبَى بِمُلَاءَةٍ وَجَلَسَ يُقَاسِي سَكَرَاتِ الْمَوْتِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حضر: لو اضطجعت كان أهون عليك.

فضحك ثُمَّ قَالَ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

وَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ كِرَامٍ يَزِيدُهُمْ * شِمَاسًا وَصَبْرًا شِدَّةُ الحدثان

مات لَيْلَةَ السَّبْتِ، وَقِيلَ لَيْلَةَ الْأَحَدِ مُسْتَهَلَّ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، عَنْ خَمْسٍ، وقيل سبع وأربعين سنة، وكان ملكه ثلاثاً وعشرين سنة.

  1. () ابن كثير: البداية والنهاية،(10/261).
  2. ()محمد الخضري بك: الدولة العباسية،(ص117).
  3. () طقوش: تاريخ الدولة العباسية،(ص91).
  4. () الطبري:تاريخ الرسل والملوك،(8/347).
  5. () الذهبي:سير أعلام النبلاء،(8/53).
  6. () الذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، (11/11)، السيوطي: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911هـ)،تاريخ الخلفاء،(ص212).
  7. () ابن كثير: البداية والنهاية،( 10/ 236).
  8. () الذهبي:سير أعلام النبلاء،(8/481).
  9. () السيوطي ،تاريخ الخلفاء،(ص217).
  10. () ابن تيمية : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ)، مجموع الفتاوى،(4/20).
  11. () ابن عساكر:تاريخ دمشق،(7/127).
  12. () الذهبي: سير أعلام النبلاء،(9/287).
  13. () طقوش:تاريخ الدولة العباسية،ص92.

 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى