لا تجادلوا أهل الجدال
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي هذه الفترة الحرجة التي تحياها بلادنا “ودعوتنا كذلك” كثر الجدال بين الناس بصفة عامة وبين الإخوة بصفة خاصة، وأحيانًا يؤدي ذلك إلى بعض الخلافات والخصومات والنزاعات، وأحيانًا أخرى يؤدي الحوار إلى التفاهم.
وثمة فرق بين الجدال والحوار عند البعض، فالحوار وسيلة مهمة مِن وسائل الدعوة إلى الله والوصول إلى الحق، والحوار فن من الفنون، له أصول وأركان، وضوابط وآداب، وقد ورد لفظ الحوار في القران العظيم، فمن ذلك قوله -تعالى-: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة:1)، وقال -تعالى-: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) (الكهف:37).
فالحوار هو مناقشة هادفة بغرض الوصول لرأي يتفق عليه الطرفان باستخدام أسلوب راق في الحديث بهدوء وأدب دون خروج الانفعالات عن حدها الطبيعي الذي قد يصل لدرجة النزاع والخصومة!
والحوار: يغلب عليه الهدوء والبُعد عن الخصومة والتعصب، وهو ضرب من الأدب الرفيع وأسلوب من أساليبه.
أما الجدال فهو: التباري مع الخصم وتبادل الحجج معه؛ لإثبات المنهج والمعتقد.
وهنا مكمن الخطورة، أو الشعرة الفاصلة بين النية الحسنة في الجدال والنية السيئة فيه؛ لأن المجادِل يبحث عن النصر والتفوق في الجدال، فإن كان الجدال انتصارًا للذات كانت النية سيئة، وإن كان انتصارًا للحق كانت النية صالحة.
وقد ورد لفظ الجدل في القرآن الكريم عشرات المرات كلها في سياق الذم، إلا في ثلاثة مواضع وهي: قوله -تعالى-: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)، وقوله -تعالى-: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت:46)، وقوله -تعالى-: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ… ) (المجادلة:1).
أما بقية المواضع في القرآن الكريم: فإما أن تكون في سياق عدم الرضا عن الجدال، وإما عدم جدواه، أو لأنه يفتقد شروطًا أساسية كطلب الحق أو الجدال بغير علم أو يطلقه الكفار على الرسل كما قال -تعالى-: (قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) (هود:32).
والجدل قيد بالحسنى كما في قوله -تعالى-: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)، وقوله -تعالى-: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت:46)، فلفظة الجدل غالبًا مذمومة إلا إذا قيدت ببعض الضوابط؛ ومما يؤكد ذلك ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ) ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (الزخرف:58) (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني).
والقرآن الكريم يدعونا إلى الجدال بالتي هي أحسن باعتبار الجدال وسيلة لهداية البشرية، وإصلاح النفوس، وعلاج الأمراض، واستمالة القلوب.
ومن ذلك: قوله -تعالى- مخاطبًا نبيه الكريم -صلى الله عليه وسلم-: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:???).
وجدال الأنبياء مع مَن بعثوا إليهم هو مِن باب الجدال النبيل الهادف، وذلك لسمو هدفه وسمو مقاصده.
ومن أمثلة ذلك: جدال أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- مع ملك زمانه الذي ادعى الألوهية نمرود بن كنعان، فإن إبراهيم -عليه السلام- استطاع أن يهزم الملك الطاغية في الجدال كما أشار القرآن الكريم، إذ يقول -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).
وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجادل أهل الكتاب والمشركين بالتي هي أحسن؛ فهو خير مَن نصح وأرشد وأفصح، ومَن حاور وناقش، كان عفَّ اللسان، قوي الحجة، سديد القول، مالكًا للحكمة، شديد التأثير فى سامعيه، والإنسان خُلق جهولاً، قال الله -تعالى-: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (النحل:78)، وليس جهل الإنسان بحكم مسألة عيبًا فيه، بل العيب أن يجادل فيها بالباطل.
فعلى الإنسان أن يحرص على التعلم، وألا يتكلم فيما لا يحسن، فقد كان أهل العلم يحرصون كثيرًا على رد العلم إلى الله -تعالى- في المسائل، حتى إن الإمام مالك -رحمه الله- “وهو مَن هو في العلم” سُئل عن اثنتين وأربعين مسألة، فقال في ثمانية وثلاثين منها: “لا أدري!”، وكان يقول: “ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: لا أدري؛ ليكون أصلاً في أيديهم يرجعون إليه”.
وقد قال ابن دريد -رحمه الله-:
ومَن كان يهوى أن يُرى متصدرًا ويكـره لا أدري أصيـبـتْ مـقـاتـله
وقال بعض السلف: “إذا أراد الله بعبد شرًّا أغلق عنه باب العمل، وفتح له باب الجدل”، وفي الحديث عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).
والمعنى: أنا ضامن أن يدخل الجنة بتركه المراء وإن كان محقًّا، والمراء: الجدل؛ لأن الجدل يفسد العلاقات بين الناس، حتى لو أنت على صواب إذا فتحت باب الجدل مع إنسان لا تصل معه في النهاية إلى شيء، وخاصة إذا كان مخاصمًا عنيدًا.
فالأفضل للإنسان أن يغلق باب الجدل إلا أن يحتاج للرد على كافر أو صاحب بدعة، ولكن لا تبقى هذه عادة الإنسان في كل وقت، ولكن إن احتاج إلى ذلك فعل، ولا يرضى أن تكون كثرة الجدل طبيعة في نفسه أبدًا، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا).
فالحوار والجدال بالحسنى أمر مرغوب إذا صحت النوايا وصلحت القلوب، قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: “وليكن قصده في مناظرته إيضاح الحق وتثبيته دون المغالبة للخصم”، وقال الشافعي -رحمه الله-: “ما ناظرتُ أحدًا إلا وددتُ أن يظهر الله الحق على لسانه”.
ومِن الضوابط في الحوار أنه: “يسعنا الخلاف في مسائل الاجتهاد”؛ فلابد أن نعلم جميعًا أن ما جاءنا محكمًا لا مجال فيه للرأي، وأما مسائل الاجتهاد فيسعنا فيها الخلاف، لكن التعصب للرأي والانفعال أثناء الحوار سيؤدي إلى الفرقة والنزاع، ولن يؤدي أبدًا إلى الهدف المرجو والمنشود، وقد قال الشافعي -رحمه الله-: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، فلابد أن يدور الحوار في هذا الإطار بهذه الثقافة.
ومِن أصول الحوار وآدابه -كذلك-: الحلم والرفق، والحفاظ على رابطة الأخوة في مسائل الخلاف السائغ، ولا نسارع في تمزيق هذه الرابطة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “ولو أنه كلما اختلف مسلمان تهاجرا لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أخوة!”.
وخذ هذه القاعدة الذهبية من علمائنا الأفاضل: “ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن اختلفنا؟!”.
هذه “القاعدة الذهبية” قالها الإمام الشافعي -رحمه الله- ليونس بن عبد الأعلى، وقالها الإمام أحمد لعلي بن المديني عندما اختلفا في مسألة وارتفعت أصواتهما، وعندما انتهيا؛ قام الإمام أحمد وقال للإمام علي بن المديني: “ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن اختلفنا في مسالة؟!”.
فالغرض المقصود بعد هذا التفصيل أن هناك نوعًا من الناس يريد الحوار من أجل الوصول للحق، فهذا النوع لابد من التواصل معه، وذلك من باب حرص الأخ على أخيه، ومن باب النصح أيضًا.
وهناك نوع آخر يريد الحوار ليصل به إلى درجة الجدال المذموم، ثم العصبية المذهبية، واتباع الهوى والعواطف والمشاعر، وليس عنده أدنى احتمال ليغير مِن موقفه أو أن يرجع عن فكره! ولو أنك أتيته بكل دليل يرده بالباطل وبلا أدنى قواعد علمية أو معادلات منطقية! فهذا النوع هم أهل الجدال الذين لابد أن نتجنب الجدال معهم.
والله المستعان.