عصرنة التدين وتطويع الأحكام الشرعية
شيرين أبو عاقلة: أنموذجًا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
لا شك أن تمسك الأمة المسلمة بدينها وثوابتها من أهم عوامل النصر والتمكين والنهضة، ولذا ففى فترة يسيرة فى حساب القرون والأزمنة، ظهر الإسلام وامتدت رقعته حتى حدود الصين والهند وأقصى الأندلس وقلب إفريقية، وأقام المسلمون حضارة متكاملة، شهدت بها أوروبا والعالم أجمع، وكان المرجو والمعقول أن تستمر تلك الحضارة،ولكن الذى حدث أن منحنى التقدم توقف لفترة ثم بدأ بعد ذلك فى الهبوط الحاد، وذلك يعود إلى تفريط المسلمين فى دينهم ومنهجهم وثوابتهم، ولقد سعى الاستعمار إلى إيقاف شمس حضارة الإسلام التى ظلت مشرقة لعدة قرون متتابعة، وقد ساهم فى غروب شمس حضارة الإسلام أيضا، الحملات الصليبية المتتابعة، وهذة الحملات أحدثت دويًا هائلًا أدى إلى تراجع ملحوظ فى حضارة المسلمين وقوتهم ،وقد ظهر ذلك جليا فى أواخر عهد الخلافة العثمانية، ولقد ساهم في غروب شمس حضارة المسلمين بعض أبناء الإسلام، وهؤلاء هم الذين انبهروا بالغرب وتقدمه في بعض المجالات، فسعى هؤلاء إلى تقليد الغرب في كل صغير وكبير، حتى قام بعض هؤلاء بتطويع أحكام الشريعة الإسلامية لتتماشى مع العصر الحديث، وذلك بغية الوصول إلى التقدم الحضاري الغربي، ولا شك أن هؤلاء لم يحسنوا قراءة التاريخ الإسلامي، ولم يستطع هؤلاء أن يقوموا بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولذا قاموا بتطويع بعض الأحكام الشرعية.
ومن هنا نقول أنه لا تعارض بين الأصالة والمعاصرة، فإن الأصالة مصطلح يعنى به الرجوع إلى الأصول، والتي تعني عند أمة الإسلام الوحي المتمثل في الكتاب والسنة، لأنهما مصدرا التشريع الإسلامي، فالأصالة هى الميراث الديني والثقافي والحضارى، وأما المعاصرة فهى تعنى مواكبة العصر ومعايشته فلكل عصر عصريته، والحداثة أو المعاصرة تعني عملية التغيير التي بمقتضاها تحصل المجتمعات المختلفة على الصفات المشتركة التي تتميز بها المجتمعات المتقدمة، فهي تعني مجموعة الخصائص البنائية التي تميز المجتمع العصري، وهذا التقدم والتطور فى الحياة المعاصرة ليس فيه حرج بشرط ألا يتعارض مع نصوص الوحى، أو يتعارض مع ثوابت الدين، أما أن تكون المعاصرة هى محاولة تغريب العالم الإسلامي؛ وطمس هويته الإسلامية، وصبغها بالصبغة الغربية فهذا هو المحذور .
وبعد اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، قامت حرب على الشبكة العنكبوتية حول مصير شيرين في الآخرة. ولا شك أن شيرين أبو عاقلة قد قامت بدور كبير تجاه القضية الفلسطينية، وهو دور لا ينكره منصف، فلقد تضمنت حياتها المهنية تغطية الأحداث الفلسطينية الكبرى، وتعرضت لكثير من المخاطر، ولذا فلقد قدمت شيرين أنموذجًا مهنيًا لا يختلف عليه اثنان.
وبعد واقعة اغتيالها اختلف الناس في شأنها، فمنهم من أثنى عليها وذكر مآثرها وتاريخ نضالها واكتفى بذلك، وهذا لا حرج فيه، وهناك صنف آخر وصفها بالشهيدة وسأل الله لها الرحمة والمغفرة ونحو ذلك، وسمعتُ عن صنف ثالث صلى عليها صلاة الغائب والله أعلم بصحة هذا الخبر.
وهنا لابد من وقفة لتحقيق هذه المسألة وتحريرها، فلن تنتهي القضية بموت شيرين ونسيانها، ولكنها ستحيا وتستمر كلما مات أحد على غير الإسلام ممن يتمتعون ببعض الفضائل والمحاسن الدنيوية.
وأثناء متابعتي لهذه القضية وقفتُ على كلام خطير لا أدري كيف تطاول أصحابه وتجاسروا على التفوه به؛ مفاده التسوية بين الإسلام وغيره من الأديان!، بل ووقفت على بعض الكلمات والعبارات التي تنم عن الحالة المتردية التي وصل إليها مجتمعنا إذ صار يُتاح لمن شاء أن يتكلم بما شاء حتى ولو كان يخالف صريح الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، فبعض هؤلاء تكلموا بجهل، وبعضهم قام بتحكيم العاطفة بدلًا من تحكيم شرع الله تعالى، وقام البعض الآخر بالتدليس على الناس؛ واستدل ببعض آيات القرآن التي تحدث الله فيها عن سعة رحمته في غير موضعها.
وهذه المسألة التي نحن بصددها الآن، ألا وهي مصير من مات على غير الإسلام؛ من المسائل المحسومة في القرآن والسنة، والأدلة عليها مستفيضة ومتواترة.
أولاً:
قال الله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19)، وقال -تعالى-: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، فدلت الآيتان على أن الدين عند الله هو الإسلام فقط، وغيره مردود وباطل.
ثانيًا:
قال الله -تعالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21)، فقد دلت الآية على أن الجنة أعدت للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، أما اليهود والنصارى فهم لا يؤمنون بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن المعلوم أن مَن آمن بجميع الرسل ثم كذب بمحمد -عليه الصلاة والسلام- فقد كذب بالرسل جميعًا؛ لأن الله -تعالى- قال: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:105-110).
وهذا إخبار من الله -عز وجل- عن عبده ورسوله نوح -عليه السلام-، وهو أول رسول بعث إلى الأرض بعد ما عُبدت الأصنام والأنداد، بعثه الله ناهيًا عن ذلك ومحذرًا من وبيل عقابه، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم لأصنامهم، وكان تكذيبهم له بمنزلة تكذيب جميع الرسل; ولهذا قال -تعالى-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) أي: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟!
وقال عن قوم هود -عليه السلام-: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:123)، مع أنهم لم يكذبوا إلا هودًا -عليه السلام-، ولكن الله قال: (الْمُرْسَلِينَ)، فدل ذلك على أن من كفر برسول واحد فقد كفر بجميع الرسل، ومن أدرك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكان يؤمن برسول آخر كموسى وعيسى -عليهما السلام- وجب عليه أن يؤمن بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله الله إلى الناس جميعًا؛ الأسود والأبيض والأحمر، والعربي والعجمي، وهذا من شرفه وفضله فهو خاتم النبيين، قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف(، وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سبأ:28)، فلا يقبل الله من أحد صرفًا ولا عدلاً إلا بالإيمان بمحمد -عليه الصلاة والسلام- بعد أن بلغته رسالته.
وفى الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)، بل الأنبياء أنفسهم لا يسعهم إلا أن يؤمنوا بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:81-83).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه احمد، وحسنه الألباني(؛ ولذا فنحن نؤمن بجميع الرسل ولا نفرق بين أحد من رسله، قال -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285(.
ثالثًا:
قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ . لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:72-73).
فكيف يحكم الله على إنسان بالكفر ثم بعد ذلك يدخله الجنة؟!
رابعًا:
قال الله -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:30-31.(
فاليهود قالوا في العزير إنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا-، وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كذب الله -سبحانه- الطائفتين فقال: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم (يُضَاهِئُونَ) أي: يشابهون (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاء، (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ) قال ابن عباس: لعنهم الله، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟ أي : كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل.
خامسًا:
قال الله -تعالى- في سورة مريم: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا . تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا . أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا . وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا . إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا . لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا . وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) (مريم:88-95(
لما قرر -تعالى- في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى -عليه السلام-، وذكر خلقه من مريم بلا أب، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولدًا -تقد وتنزه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا- فقال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ… ) أي: في قولكم هذا، (شَيْئًا إِدًّا) قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومالك: أي :عظيمًا.
فكيف يقول عاقل بأن مَن نسب إلى الله الولد فإنه مِن المؤمنين وسيدخل الجنة؟!
سادسًا:
عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-: أَنَّ المُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
وقال عكرمة: لما قالت اليهود: نحن نعبد عزيرًا ابن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر، وقال المشركون: نحن نعبد الأوثان -أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يعني: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله -عز وجل-; لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
وقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة، قال مجاهد: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) يعني: لا صاحبة له.
سابعًا:
ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، فاتباع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فرض عين على كل مكلف من الإنس والجن إلى يوم القيامة ما دام قد بلغته الرسالة.
ثامنًا:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ). فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) (رواه البخاري.( فدل الحديث على أن الغلام لو مات على غير الإسلام لكان من أصحاب النار.
تاسعًا:
في صحيح البخاري: ” لَمَّا حَضَرَتْ أبَا طَالِبٍ الوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أبَا جَهْلٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بنَ أبِي أُمَيَّةَ بنِ المُغِيرَةِ، فَقالَ: أيْ عَمِّ قُلْ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لكَ بهَا عِنْدَ اللَّهِ فَقالَ أبو جَهْلٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بنُ أبِي أُمَيَّةَ: أتَرْغَبُ عن مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعْرِضُهَا عليه، ويُعِيدَانِهِ بتِلْكَ المَقالَةِ، حتَّى قالَ أبو طَالِبٍ آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: علَى مِلَّةِ عبدِ المُطَّلِبِ، وأَبَى أنْ يَقُولَ: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قالَ: قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: واللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ فأنْزَلَ اللَّهُ: {ما كانَ للنبيِّ والذينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} وأَنْزَلَ اللَّهُ في أبِي طَالِبٍ، فَقالَ لِرَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَن أحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} وفي صحيح البخاري أيضًا:” قَالَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما أغْنَيْتَ عن عَمِّكَ، فإنَّه كانَ يَحُوطُكَ ويَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: هو في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ، ولَوْلَا أنَا لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ”
فإذا كان ذلك في حق أبي طالب الذي قام لسنوات بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم حماية الدعوة، فلقد كان يذب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – ويرد عنه كل من يؤذيه ، وهو مقيم مع ذلك على دين قومه، وهو الذي قال له يومًا:
وَاللَهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
فاِصدَع بِأَمرِكَ ما عَلَيكَ غَضاضَةٌ وَاِبشِر بِذاكَ وَقَرَّ مِنهُ عُيونا
وَدَعَوتَني وَزَعَمتَ أَنَّكَ ناصِحٌ وَلَقَد صَدَقتَ وَكُنتَ ثَمَّ أَمينا
وَعَرَضتَ ديناً قَد عَلِمتُ بِأَنَّهُ مِن خَيرِ أَديانِ البَرِيَّةِ دينا
لَولا المَلامَةُ أَو حِذاري سُبَّةً لوَجَدتَني سَمحاً بِذاكَ مُبينا
ولذا فإن ما قدمته شيرين لا يعدل مثقال ذرة فيما قدمه أبو طالب لخدمة الإسلام، ومع ذلك فهذا هو مصيره كما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عاشرًا:
في صحيح البخاري” يلقى إبراهيمُ أباه آزرَ يومَ القيامةِ ، وعلى وجهِ آزرَ قَتَرَةٌ وغبَرَةٌ ، فيقولُ له إبراهيمُ : ألم أقلْ لك لا تعصِني ؟ فيقولُ أبوه : فاليومَ لا أَعصيك ، فيقولُ إبراهيمُ : يا ربِّ ! إنك وعدْتَني أن لا تُخزيَني يومَ يُبعثون ، وأيُّ خزيٍ أخزى من أبي الأبعدِ ؟ فيقولُ اللهُ : إني حرَّمتُ الجنةَ على الكافرينَ ، فيقال : يا إبراهيمُ ! انظُرْ ما بين رجلَيك ! فينظر فإذا هو بذِيخٍ مُلْتَطِخٍ ، فيؤخذُ بقوائمِه ، فيُلْقَى في النَّارِ” وهكذا حرَّم اللهُ تعالَى الجنَّةَ على الكافِرين؛ فكلُّ مَن ماتَ كافِرًا باللهِ عزَّ وجلَّ، فهو مُخلَّدٌ في النَّارِ، وعْدًا عليه حقًّا، فلا تَنفَعُه شَفاعةٌ ولا نَسَبٌ.
الحادي عشر:
عن عائشة قالت: يا رسولَ اللهِ إنَّ عبدَ اللهِ بنَ جُدعانَ كان في الجاهليةِ يَقري الضيفَ ويفكُّ العانيَ ويصِلُ الرحِمَ ويُحسِنُ الجِوارَ وأثنَيتُ عليه فهل ينفعُه ذلك ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا إنه لم يقُلْ يومًا قَطُّ ربِّ اغفِرْ لي خطيئَتي يومَ الدِّينِ( رواه مسلم وغيره).
فبعد هذه الأدلة المختصرة هل يسوغ لعاقل أن يقول إن كل من آمن برسول من الرسل أو بدين من الأديان فهو من أهل الجنة! أو يقول: إن كل من نفع البشرية بعلم من العلوم سيدخل الجنة حتى لو مات على غير دين الإسلام، وأن اليهود والنصارى سيدخلون الجنة لو ماتوا على ما هم عليه لأنهم يؤمنون بالله وبرسلهم! إذ من المعلوم بالأدلة -كما ذكرنا- أنه بعد بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يسع أحد إلا أن يؤمن به؛ فمن لم يؤمن به فهو كافر.
ومن اعتقد أن أحدًا يسعه الخروج عن شريعة محمد -عليه الصلاة والسلام- فهو كافر، ومن اعتقد أن اليهود والنصارى لا يلزمهم اتباع محمد فهو كافر، بل حتى عيسى -عليه السلام- ينزل في آخر الزمان ويحكم بشريعة محمد -عليه الصلاة والسلام- كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، ولقد ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا يؤصل العقيدة في قلوب الصحابة ويربيهم على التوحيد الخالص، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، وهذه الشريعة هي التي تنظم شئون الحياة، ولن يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم.
فينبغي على كل عاقل أن يعود إلى الحق، وأن يعرف الحق ويتعلمه، قال الله -عز وجل-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ (وهذا العلم الذي أمر الله به هو العلم بتوحيد الله -عز وجل-.
وأخيرًا:
هذا غيض من فيض، فالأدلة على مصير من مات على غير الإسلام متواترة، وهناك فرق بين الثناء على غير المسلم، وبين الدعاء له بالرحمة والمغفرة، فالثناء عليه بما اتصف به من المحاسن لا حرج فيه، فإن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ في أُسَارَى بَدْرٍ: لو كانَ المُطْعِمُ بنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي في هَؤُلَاءِ النَّتْنَى؛ لَتَرَكْتُهُمْ له، أي: أطلقت سراحهم من أجله ومن أجل شفاعته، مع أن المطعم مات على الكفر، لكن المطعم هو الذي أمن النبي صلى الله عليه وسلم وأجاره لما قدم من الطائف، وأنزله في جواره ومنع الكفار من إيذائه.
فينبغي علينا أن نتأمل هذه الأدلة جيدًا؛ وألا ننجرف خلف العواطف والمشاعر، والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأفعال، وأن يأخذ بنواصينا لكل ما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.