د. زين العابدين كامل: جبر الخواطر عبادة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن مراعاة أحوال الناس ونفوسهم وجبر خواطرهم، نوعٌ مِن حُسن الخلق، وحسن الخلق مِن أجلِّ العبادات وأعظمها أجرًا عند الله -تعالى-.

ومَن تأمل وتدبر بعض مواقف رسول الله -عليه الصلاة والسلام- في حياته، يرى أن مراعاة الخواطر كان مِن أولوياته -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة، فإذا تأملنا حال أم المؤمنين سودة بنت زمعة -رضي الله عنها-، نرى أنها أسلمتْ قديمًا، وكانت متزوجة مِن ابن عمها: السكران بن عمرو، وأسلم هو أيضًا، ثم هاجرا إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، فلما قدما مكة مات زوجها، وقيل: مات بالحبشة، وهنا تزوجها -صلى الله عليه وسلم-، وتعدُّ السيدة سودة أوَّل امرأة تزوجها الرسول  بعد خديجة، وكانت قد بلغت مِن العمر حينئذٍ الخامسة والخمسين، بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخمسين مِن عمره، ولما سمع الناس في مكة بأمر هذا الزواج عجبوا؛ لأن السيدة سودة لم تكن بذات جمالٍ ولا حسبٍ، ولا مطمع فيها للرجال، وقد أيقنوا أنه إنما تزوجها رفقًا بحالها، وشفقة عليها، وحفظًا لإسلامها، وجبرًا لخاطرها بعد وفاة زوجها.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ -يُقال لَهُ: زَاهِرُ بْنُ حَرَامٍ كَانَ يُهدِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْهَدِيَّةَ، فَيُجَهِّزُهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ زاهِرًا بَادِيَنا، وَنَحْنُ حَاضِرُوهُ) قَالَ: فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَبِيعُ مَتَاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ -وَالرَّجُلُ لَا يُبصره-؛ فَقَالَ: أَرْسِلْنِي، مَن هَذَا؟! فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، جَعَلَ يُلْزِقُ ظَهْرَهُ بِصَدْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ؟)، فَقَالَ زَاهِرٌ: تجدُني يَا رَسُولَ اللَّهِ كاسِدًا، قَالَ: (لَكِنَّكَ عِنْدَ اللَّهِ لَسْتَ بِكَاسِدٍ)، وفي لفظ: (بَلْ أَنْتَ عِنْدَ اللهِ غَالٍ) (رواه أحمد وابن حبان، وصححه الألباني).

فتأمل كيف تعامل رسول الله مع زاهر، وكان رجلًا دميمًا؟! لذا قال: “تجدُني يَا رَسُولَ اللَّهِ كاسِدًا”، ولكن جبر رسول الله خاطره، وأخبره أنه عند الله له قدر ومنزلة.

وعن جابر -رضي الله عنه- قال: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لِي: (يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: (أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ) قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ-: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ)، قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا) (آل عمران:169) (رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني).

فانظر كيف جبر الرسول خاطره، وأزاح عنه الهم بهذه الكلمات؟!

ومما يُروى أيضًا في هذا المعنى؛ ما ذكره أصحاب السير، لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ أُمَّ حَكِيمِ بِنْتِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ امْرَأَةً عَاقِلَةً أَسْلَمَتْ ، ثُمَّ سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمَانَ لِزَوْجِهَا فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ ، فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ وَقَالَتْ لَهُ : جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أَوْصَلِ النَّاسِ وَأَبَرِّ النَّاسِ وَخَيْرِ النَّاسِ وَقَدِ اسْتَأْمَنْتُ لَكَ فَأَمَّنَكَ ، فَرَجَعَ مَعَهَا ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مَكَّةَ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : “يَأْتِيَكُمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مُؤْمِنًا مُهَاجِرًا ، فَلَا تَسُبُّوا أَبَاهُ ، فَإِنَّ سَبَّ الْمَيِّتِ يُؤْذِي الْحَيَّ ، وَلَا يَبْلُغُ الْمَيِّتَ”([1])  وهذه الرواية وإن تكلم العلماء في سندها، إلا أنه يوجد من الأدلة الصحيحة ما يفيد هذا المعنى؛ وهو عدم سب الأموات، فعن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ، فإنَّهُمْ قدْ أفْضَوْا إلى ما قَدَّمُوا” (صحيح البخاري).

وروى ابن ماجة، وأبو نعيم في حلية الأولياء؛ أن جرير بن عبد الله البَجَليِّ ، وكان سيد قومه، دخل على رسول الله ﷺ وعنده أصحابه، فظن الناس بمجالسهم فلم يوسع له أحد، فأخذ رسول الله ﷺ رداءه فألقاه إليه، وقال: اجلس عليها، فتلقاه جرير بنحره ووجهه، فقبله ووضعه على عينيه، وقال: أكرمك الله كما أكرمتني، ثم وضعه على ظهر رسول الله ﷺ، -أي أعاده إليه- فقال رسول الله ﷺ:” إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه”  وهكذا كان رسول الله يتعامل مع ذوي الهيئات، ويراعي خواطرهم.

لذا أوصى الله -تعالى- رسوله بعدمِ كسرِ الخواطرِ، فقالَ: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ . وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) (الضحى:9-10)؛ فهيا بنا نتعبد إلى الله بهذه العبادة، فقبول الاعتذار مِن تطييب الخواطر، وإهداء الهدية مِن تطييب الخواطر، وتعزية أهل الميت مِن تطيب الخواطر، ومواساة المظلوم والمكلوم، والمريض والفقير والمسكين مِن تطييب الخواطر، وقد شرع الله الدية لأهل المقتول حفظـًا للنفوس وتطييبًا للخواطر أيضًا.

والله المستعان.

 

([1])  انظر: كنز العمال، والمستدرك على الصحيحين للحاكم، و شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، والجامع الكبير لجلال الدين السيوطي، ومغازي الواقدي، و سبل الهدى والرشاد، في سيرة خير العباد للصالحي الشامي، والسيرة الحلبية، وصَحِيح الأثَر وجَمَيل العبر من سيرة خير البشر، و اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون، وتاريخ الطبري، و المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي، وطبقات ابن سعد، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والحديث قال عنه الألباني موضوع.

 

 

 

انتقل إلى أعلى
Send this to a friend