بقلم الدكتور/ زين العابدين كامل
مدينة دمشق هي عروس الشام، وهي حصن الشام، وتُلقَّب كذلك بالمدينة الفيحاء، ودمشق هي مهد الحضارات وهي مدينة العلم والحضارة والتاريخ والثقافة والتراث، ولمكانتها وشرفها وعلو منـزلتها، قام ابن عساكر بتأليف كتابه المشهور: «تاريخ دمشق»، وهو أضخم كتاب تاريخي تحدث عن مدينة واحدة في التراث العلمي التاريخي، وقد بلغ الكتاب ثمانين مجلدًا؛ ولذا احتل الكتاب مكانة مرموقة، حيث تحدَّث المؤلف عن كلِّ من يخص مدينة دمشق من النواحي: الجغرافية، والعمرانية، والحضارية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها.
دمشق مهد الحضارات:
لقد تعاقبت حضارات مختلفة على مدينة دمشق، ولا شك أن هذا يدل على أهمية المدينة، ومِن تلك الحضارات: الحضارة الآرامية، والأشورية، والبابلية، والرومانية، واليونانية، وبعض المصادر تشير إلى أن مدينة دمشق قد ارتبطت بالتاريخ اليوناني لمدة عشرة قرون تقريبًا.
دمشق في العصور الإسلامية:
يذكر ابن كثير في «البداية والنهاية»: أنه لما ارتحل أبو عبيدة من اليرموك فنـزل بالجنود على مرج الصفر، وهو عازم على حصار دمشق، إذ أتاه الخبر بقدوم مددهم من حمص، وجاءه الخبر بأنه قد اجتمع طائفة كبيرة من الروم بفحل من أرض فلسطين، وهو لا يدري بأي الأمرين يبدأ؛ فكتب إلى عمر بن الخطاب في ذلك، فجاء الجواب: «أن ابدأ بدمشق، فإنها حصن الشام، وبيت مملكتهم»[1].
وهكذا نلمح من توجيه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه كان مُهتمًا بأمر دمشق، وكان على دراية بأهميتها؛ ولذا أشار على أبي عبيدة بن الجراح أن يبدأ بها أولًا، وقد تم فتح المدينة عام 14هـ /635م.
هذا وقد اشترك عددٌ مِن القادة العسكريين الكبار المعروفين المشهورين في فتح المدينة، منهم: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعياض بن غنم.
ومِن الصحابة الذين كان لهم دور بارز في فتوحات الشام ودمشق أيضًا: أبو الدرداء الأنصاري، والقعقاع بن عمرو، وغيرهم كثير من الصحب الكرام، والقادة الأبطال، وقد تم فتح المدينة بعد حصار دام عدة أشهر، وقد ترك الصحابة M للروم كنائسهم، عدا كنيسة يوحنا، فقد أقام الصحابة على الجزء الشرقي منها المسجد الجامع.
وفي هذا يقول ابن كثير : «وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يُقَال لها: كنيسة يوحنا، فلما فَتَحَ الصحابةُ دمشق جعلوها مناصفة، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجدًا، وبقي الجانب الغربي كنيسة بحاله»[2].
ثم ازدهرت دمشق وانتقلت إلى مرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ مِن عمرها، وذلك في عصر الدولة الأموية: فمِن المعروف أن المدينة المنورة هي العاصمة الأولى، بل هي دولة الإسلام الأولى التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموطن المهاجرين والأنصار، ومهما تعددت العواصم في العالم الإسلامي تبقى المدينة هي العاصمة الروحية للمسلمين؛ ففيها وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم المأوى والأمن، والتأييد والنصرة من الأنصار .
وبعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، استمرت المدينة هي العاصمة للخلفاء الراشدين: أبى بكر، وعمر، وعثمان، وأما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فلم يمكث كثيرًا بالمدينة بعد توليه أمر الخلافة، وانتقل إلى العراق؛ نظرًا للأحداث السياسية آنذاك.
وفى المدينة يوجد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما آلت الخلافة إلى معاوية اتخذ دمشق عاصمة للدولة، ولكن ظلت المدينة تحتفظ بقيمتها ومكانتها في قلوب المسلمين، وكان معاوية رضي الله عنه يعلم ذلك جيدًا، وكان يوقِّر ويحترم ويكرم أهل المدينة، وأوصى بذلك ولده يزيد.
فمع صعود الأمويين إلى الخلافة، تنتقل دمشق إلى مرحلةٍ جديدةٍ، حيث أنها أصبحت عاصمة للدولة الجديدة، وتلعب دمشق دورًا سياسيًّا بارزًا في عصرها الجديد؛ وذلك نظرًا لتواجد الخلفاء والأمراء بها، وكذا ازدهرت دمشق في النواحي: الإدارية، والسياسية، والاقتصادية، والتجارية، والعمرانية.
ثم ازدهرت دمشق وعاشت أزهى عصورها، وأفضل أيامها في خلافة الوليد بن عبد الملك: الذي أمر بحفر الآبار والعيون في دمشق، وأقام سلسلة من الطرق تصل دمشق وتربطها بما حولها مِن المدن، وكذا أقام الوليد بن عبد الملك المساجد، وشيَّد المآذن، وشيَّد الجامع الأموي المعروف.
ولقد تبارى الواصفون والشعراء في ذكر محاسن المسجد الأموي بدمشق، وأكثر المؤرخون من الحديث عنه.
قال ابن عساكر في كتابه: «تاريخ دمشق»: «باب: ذكر شرف المسجد الجامع بدمشق وفضله، وقول مَن قال: إنه لا يوجد في الأقطار مثله: عن قتادة قال: أقسم الله تعالى بمساجد أربعة، قال: و(التين) وهو مسجد دمشق، و(الزيتون) وهو بيت المقدس، و(طور سينين) وهو حيث كلَّم الله تعالى موسى عليه السلام، و(البلد الأمين) وهو مكة، وعن كعب الأحبار قال: ليُبنينَّ في دمشق مسجدٌ يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عامًا»[3].
وقال ابن عساكر في رواية أخرى: «إن حيطان مسجد دمشق الأربع هي من بناء هود عيه السلام، وما كان من الفسيفساء[4] إلى فوق، فهو من بناء الوليد».
وقال الحموي في كتاب معجم البلدان: «أن هود عليه السلام نـزل دمشق، وأسس الحائط الذي قِبَلي جامعها»[5].
وقال البدري في كتاب نـزهة الأنام في محاسن الشام: «وما ورد في فضل مسجدها نقلًا عن بعض المفسرين: أن المقصود بالقسَم بالتين هو مسجد دمشق، وأنهم أدركوا فيه شجرًا من تين قبل أن يبنيه الوليد.
وفي رواية أخرى قال: إن التين مسجد دمشق، كان بستانًا لهود ، وفيه تين قديم»[6].
وقد بالغ الوليد في النفقة على تشييد المسجد الأموي، فبناه على أحدث طراز معماري آنذاك، وقد شاركت جنسيات متعددة في بناء وتشييد المسجد.
قال الحموي: «ويقال: إن الوليد أنفق على عمارته خراج المملكة سبع سنين، وحملت إليه الحسبانات بما أنفق عليه على ثمانية عشر بعيرًا، فأمر بإحراقها ولم ينظر فيها، وقال: هو شيء أخرجناه لله فلم نتبعه.
ومِن عجائبه أنه لو عاش الإنسان مائة سنة وكان يتأمله كل يوم لرأى فيه كل يوم ما لم يره في سائر الأيام من حسن صنائعه واختلافها»[7].
وقد اهتم الخلفاء على مرِّ العصور المختلفة بالجامع الأموي؛ لأنه أهم معالم دمشق، فمنهم من كان يُعيد إعماره، ومنهم من كان يبني أبوابًا، ومنهم مَن اهتم بتشييد القباب والمآذن، ونحو ذلك.
ثم في العصر العباسي تغيَّرت الأحوال قليلًا حيث إن العباسيين اتخذوا من بغداد عاصمة لدولتهم، فانتقلت العاصمة من دمشق إلى بغداد، وذلك بعد أن تمركز العباسيون في العراق، وأصبحت بغداد هي عاصمة الدولة، لكن دمشق لم تكن بعيدة عن مسرح الأحداث؛ لا سيما في نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، حيث إن التوترات السياسية التي حدثت في عصر مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، والقتال الذي دار بين العباسيين وبين الأمويين كان معظمه على أرض الشام[8].
ولا شك أن دمشق قد تأثرت ببعض الأحداث السياسية أيضًا في بعض الأزمنة؛ لا سيما بعد أن ظلت تنتقل من حُكم إلى حُكم آخر، فقد وقعت دمشق تحت سيطرة بعض الحكام المحليين: كابن طولون، حيث إن الدولة الطولونية قد استقلت عن الخلافة العباسية عام 254هـ /868م، وقد وقعت دمشق كذلك تحت حكم القرامطة، وغيرها من الدول التي استقلت عن الدولة العباسية، لكنها ظلت في جميع العصور هي المركز الرئيسي للتجارة في المنطقة.
وقد تعرَّضَت دمشق للاحتلال الصليبي عدة مرات، وفي النهاية تم تحرير دمشق على يد القائد البطل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، ثم تعرضت للاحتلال من قِبَل التتار، واستمر الزحف التتري الهائل الظالم على بلاد الشام، ثم عادت بعد ذلك دمشق إلى قبضة المسلمين مرةً أخرى، وذلك على يد القائد المظفر قطز عام 658هـ /1260م، ثم في عام 803هـ/1401م، وصل القائد المغولي تيمورلنك إلى دمشق واستولى على المدينة، وسقطت دمشق في أيدي المغول.
وقد قام تيمورلنك بتخريب المدينة، ونهبها وأحرقها، وقتل أغلب أهلها، ولم يسلم منه حتى الحيوانات!
ثم عادت دمشق إلى قبضة المسلمين مرةً أخرى.
وازدهرت دمشق في عصر الدولة العثمانية؛ لا سيما في عصر السلطان سليمان القانوني ، وقد أمر سليمان القانوني ببناء التكية السليمانية؛ نسبة إلى سليمان، وكانت التكية عبارة عن بناء متكامل يضم: مسجدًا، ومتحفًا، وسوقًا، ومدرسة، وقد كانت التكية السليمانية في دمشق تخدم عابري السبيل والفقراء، وحجاج بيت الله الحرام، وتؤمِّن لهم الطعام والمأوى والتعليم، ونحو ذلك، فهذه التكية السليمانية أحد معالم دمشق، وهي دليل على فضل دمشق وحضارتها، وتراثها وتاريخها.
وقد لعبت دمشق دورًا سياسيًّا بارزًا في العصر الحديث، حيث مهدت دمشق الطريق لإنهاء الاحتلال الفرنسي لسوريا بالكامل، فلقد قامت دمشق بإضراب كامل في أوائل عام 1354هـ /1936م، حيث نفذ التجار الدمشقيون إضرابًا أُطْلِق عليه: (الإضراب الستيني)، وذلك احتجاجًا على انتهاكات سلطات الانتداب الفرنسي، واستمر الإضراب لمدة شهرين، وقد حاولت السلطات الفرنسية بكل الوسائل فض ذلك الإضراب، ولكن دون جدوى، فما كان منها إلا أن لجأت إلى كسر أقفال المحال التجارية، وفتحت أبوابها وجعلتها عرضة للنهب والسرقة.
وبالفعل نجح الإضراب الستيني الذي خرج من رحم دمشق، وكان هو الشرارة التي أشعلت نيران الحرية، لتحرق آمال المحتل الفرنسي؛ ولذا فإن الإضراب الستيني كان هذا هو السبيل والطريق لإنهاء الاحتلال الفرنسي لدولة سوريا[9].
دمشق في آخر الزمان:
ستكون دمشق في آخر الزمان هي معقل المسلمين، وهي حصنهم من الدجال، وهذا من الشرف الذي تشرف به دمشق على غيرها من المدن، فينـزل عيسى عليه السلام بعد خروج الدجال ونشر فتنته، وإفساده في الأرض، فيقتله، وهو أول عمل يقوم به بعد نـزوله، ويكون نـزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ -يعني: حلتين مصبوغتين بورس أو زعفران-، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ -أي: يطلب عيسى S الدجالَ- حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ»[10].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ H حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ»[11].
ويكون نـزوله على الطائفة المنصورة التي تقاتل على الحق، وتكون مجتمعة لقتال الدجال وقد أقيمت الصلاة والمهدي إمامها، فيقول لعيسى: يا روح الله تقدَّم، فيقول: لا، بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة فيصلي عيسى S خلفه[12].
وقد تلمَّس العلماءُ الحكمةَ مِن نـزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان، فقالوا: للرد على اليهود الذين قالوا: إنهم قتلوه، فبيَّن الله كذبهم، وأنه هو الذي يقتلهم ويقتل رئيسهم الدجال، ورجَّح هذا القول الحافظ ابن حجر.
وفي الحديث عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ، إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: دِمَشْقُ، مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ»[13].
وأخيرًا: فما ذكرناه عن دمشق لهو غيض من فيض، فدمشق هي رمز العزة والكرامة، وهي عبق التاريخ والحضارة.
[1] البداية والنهاية (7/19).
[2] المصدر السابق (9/85).
[3] تاريخ دمشق (2/238)، البداية والنهاية (9/175).
[4] الفُسَيْفِسَاءُ: قِطَعٌ صغارٌ ملوَّنةٌ من الرخام أَو الحصباءِ أَو الخَرَزِ أَو نحوها يُضَمُّ بعضُها إلى بعض، فيكوَّن منها صور ورسوم تزين أَرضَ البيت أو جُدرانَه.
[5] الحموي: معجم البلدان (2/463).
[6] البدري، نزهة الأنام في محاسن الشام (ص30).
[7] الحموي، معجم البلدان (2/466).
[8] للاطلاع على جميع الأحداث والتوترات السياسية، راجع كتابنا: «أحداث الفتن السياسية في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية».
[9] للاطلاع على المزيد من تاريخ دمشق، راجع: تاريخ دمشق لابن القلانسي، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والحياة العلمية في دمشق في العصر الأيوبي، لناصر محمد الحازمي، ومعطيات عن دمشق وبلاد الشام الجنوبية في نهاية القرن السادس عشر، د محمد الأرناؤوط.
[10] رواه مسلم (2937).
[11] رواه البخاري (3448)، ومسلم (155).
[12] عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ، قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ H يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قَالَ: «فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ H، فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ صَلِّ لَنَا، فَيَقُولُ: لَا، إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ تَكْرِمَةَ اللهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ» [رواه مسلم (156)].
[1] رواه أحمد (21725)، وأبو داود (4298)، وصححه الألباني.