مقالات تاريخية

مدينة الكوفة في ذاكرة التاريخ – قبة الإسلام

تاريخ مدينة الكوفة

بقلم/ د. زين العابدين كامل

 

ذكرنا سابقًا: أن أغلب مدن العراق فُتِحَت في عصر خلافة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وتُعَدُّ مدينة الكوفة أوَّل عاصمة إسلامية خارج الجزيرة العربية، وذلك بعد أن رحل إليها الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واتخذها مقرَّا للحكم بدلًا من المدينة المنورة، وكان هذا الإجراء ضروريًّا لمتابعة ما يجري في الأراضي التي فتحها المسلمون، ثم للأحداث السياسية التي وقعت آنذاك، ومنها: وقوع معركتي: الجمل وصفين.

وأما عن سبب تسمية مدينة الكوفة بهذا الاسم؛ فقيل: نسبة إلى تل صغير في وسط الكوفة، يقال له: كوفان. وقيل: لاجتماع الناس فيها، وكوفة لغةً من التجمُّع، فيُقَال: «تكوَّف الجند»؛ أي: اجتمعوا، فهي كوفة الجند، أي: مكان تجمُّعهم، كما يقال تكوَّف الرمل، أي: تجمَّع، وكل رمل يخالطه حصباء يسمَّى كوفة.

وكما يقال: إنَّ القوم في كوفان؛ أي: في أمر يجمعهم.

وقيل: سميت الكوفة لاستدارة بنائها، ومنه قولهم: كأنّهم يدورون في كوفان[1].

ويقال للكوفة: قُبَّة الإسلام[2].

 

الجذور التاريخية لمدينة الكوفة:

كانت الكوفة في عصر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب خالية من السكان، وقد استقر المسلمون في المدائن بعد فتحها، ويبدو أنَّ البنية الجغرافيَّة لإقليم المدائن لم تتناسب مع ما ألفه العرب من جوٍّ صحراوي مفتوح، فشحب لونهم، وذبلت أجسامهم، وتغيَّرت صحَّة الجند، ولعل أمير المؤمنين عمر I كان يخشى أيضًا من تأثر البعض بعادات أهل المدائن من الترف، ونحو ذلك؛ ولذا أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بأن يتَّخذ للمسلمين دار هجرةٍ يُقيمون فيها، وأن يختار مكانًا مناسبًا بحيث لا يكون بينهم وبينه بحرٌ ولا جسر.

وقد جاء في كتاب عمر : «إنَّ العرب بمنـزلة الإبل، لا يُصلحها إلا ما يُصلح الإبل، فارتد لهم موضعًا عدنًا، ولا تجعل بيني وبينهم بحرًا»[3].

وإنَّما أراد عمر رضي الله عنه بهذا أن يُحقق عِدَّة أهداف، لعلَّ مِن أهمها: أن يكون المكان المختَار لمقام هؤلاء العرب جافًّا كالبادية، وتجري فيه مع ذلك المياه، وأن تكون المدينة الجديدة قاعدة لإمداد الفاتحين بحيث لا يحول بحرٌ ولا جسرٌ دون إرسال المدد إلى الجند المقيمين في هذه المنطقة إذا احتاجوا يومًا إلى ذلك.

وبالفعل بدأ سعد بن أبي وقاص  يبحث في مدن العراق، ونـزل في بادئ الأمر مدينة الأنبار، وقرَّر اتخاذها مقرًّا، ولكن كثرة الذباب فيها اضطرَّه إلى النـزوح إلى قرية كويفة عمر، فلم يجدها كما يرغب، فكتب إلى الخليفة للوقوف على رأيه، فأجابه: «إنَّ العرب لا يُوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادوا منـزلًا بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم فيه بحرٌ ولا جسر».

وبالفعل نفَّذ سعدٌ أوامر أمير المؤمنين عمر، ونجح الرائدان في اختيار مكانٍ مناسبٍ بين الحيرة والفرات، وهو: الكوفة، فنـزله المسلمون في شهر المحرم 17هـ /638م، وضربوا خيامًا في بادئ الأمر حتى يظلُّوا متأهِّبين للجهاد، ثم أقام المسلمون بيوتًا من القصب والقش، ولكنَّ حريقًا كبيرًا شبَّ فالتهم معظم هذه البيوت، فطلب المسلمون من عمر I أن يأذن لهم بإعادة البناء باللبن، فأَذِن لهم بشرط ألَّا يتطاولوا في البنيان[4].

ثم تم تشييد وبناء المسجد الجامع، وكذلك بناء دار الإمارة أو قصر سعد، وقد اختارت كل قبيلة مكانًا مناسبًا نـزلت فيه.

ومن أهم مميزات المدينة الجديدة: اتساع الطرق، وعدم التطاول في البنيان حتى لا تحجب الأبنية الهواء عن الناس.

الدور السياسي لمدينة الكوفة في عصر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأحداث الفتنة:

لعبت الكوفة دورًا سياسيًّا كبيرًا بالغ الأهمية في عصر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك أثناء الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وبين طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم أجمعين.

فبعد أن تحرَّكت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ومَن معها من مكة المكرمة إلى مدينة البصرة للمطالبة بدم عثمان بن عفان رضي الله عنه، وإقامة الحد على قاتليه، تحرك أمير المؤمنين علي إلى أرض العراق، وقد وقعت معركة الجمل قبل دخوله الكوفة، ولكن أهل الكوفة كانوا معه وناصروه وقاتلوا معه.

وبعد انتهاء معركة الجمل تحرَّك أمير المؤمنين إلى الكوفة وبايعه أهلها، وتوافدت عليه القبائل لمبايعته ، وقد اتخذ أمير المؤمنين علي من الكوفة مقرًّا لخلافته وإقامته، ثم خرج بعد ذلك لملاقاة معاوية بن أبي سفيان في صفين.

وبعد وقوع القتال بين الطرفين ثم الاتفاق على التحكيم، عاد علي  إلى الكوفة مرة أخرى، ثم وافق أمير المؤمنين علي  في سنة أربعين للهجرة بعد الاتفاق الذى تم بين الطرفين بشكلٍ مؤقتٍ أن يكون لمعاوية بن أبي سفيان  الشام على أن يكون العراق له، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو، وذلك بعد ما جرت بين علي ومعاوية المهادنة بعد مكاتبات جَرَت بينهما[5].

وكان أمير المؤمنين علي  قد تنغَّصت عليه الأمور، واضطرب عليه جيشه، وخالفه أهل العراق، ونكلوا عن القيام معه، وقد كان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير، وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان، أعبدهم وأزهدهم، وأعلمهم وأخشاهم لله. 

ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت؛ وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: «ما يحبس أشقاها»، أي: ما ينتظر؟ ما له لا يقتل؟![6].

وكان أمير المؤمنين علي  في هذا التوقيت يتوجَّه إلى الله بالدعاء، ويطلب منه  أن يعجِّلَ منيته، وقال يومًا: «اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُونِي، ‌وَمَلَلْتُهُمْ ‌وَمَلُّونِي، فَأَرِحْنِي مِنْهُمْ وَأَرِحْهُمْ مِنِّي، مَا يَمْنَعُ أشْقَاكُمْ أَنْ يَخْضِبَهَا بِدَمٍ»، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ[7].

وتفيد بعض الروايات: أن عليًّا  كان على علمٍ مسبقٍ مِن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيموت مقتولًا، وهو مِن الشهداء بنص أحاديث رسول الله ، وقد جمع البيهقي هذه الروايات في كتاب: (دلائل النبوة)، وجمعها الحافظ ابن كثير في كتابه: (البداية والنهاية)[8]، فعن علي  قال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهِدَ إِلَيَّ أَنْ ‌لا ‌أموت ‌حتى ‌تُخْضَبَ ‌هَذِهِ -يَعْنِي لِحْيَتَهُ- مِنْ دَمٍ هَذِهِ -يَعْنِي هَامَتَهُ-»[9].

هذا وقد خَرَجَتْ طائفةٌ مِن جيش علي بن أبي طالب عليه وكفَّروه بسبب قضية التحكيم!

وقد دخل معهم في قتال في معركة تُعرَف بالنهروان، وقد تركت معركة النهروان في نفوس الخوارج جرحًا غائرًا، فاتفق نفرٌ منهم على أن يفتكوا بعلي  ويقتلوه، وأن يثأروا لمَن قُتِل من إخوانهم في النهروان، وبالفعل قام عبد الرحمن بن ملجم أحد الخوارج بتلك المهمة، وقد أعد الخوارج خطة لهذا الأمر، وانتظر عبد الرحمن بن ملجم يومًا أمير المؤمنين وهو في طريقه من بيته لصلاة الفجر، وكان ذلك في شهر رمضان، وكان أمير المؤمنين يمرُّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، ولما ضربه ابن ملجم قال: «لا حكم إلا لله، ليس لك يا علي ولا لأصحابك»، وجعل يتلو قوله تعالى: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] [البقرة:207]، وبالفعل مات أمير المؤمنين علي، ونجح الخوارج في تنفيذ خطتهم.

وعن الشعبي: أن الحسن بن علي صلَّى على والده علي بن أبي طالب ، فكبر عليه أربع تكبيرات، ودُفن علي بالكوفة عند مسجد الجماعة في الرحبة مما يلي أبواب كندة، قبل أن ينصرف الناس من صلاة الفجر، ثم انصرف الحسن بن علي من دفنه فدعا الناس إلى بيعته فبايعوه، وكانت خلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر[10].

وهكذا لعبت الكوفة دورًا سياسيًّا كبيرًا خلال خلافة علي بن أبي طالب [11].

 

ومن مآثر الكوفة:

أنها نالت الحظ الأوفر من إقامة الصالحين بها؛ سواء من الصحابة أو التابعين؛ فقد تولَّى عبد الله بن مسعود  قضاء الكوفة وبيتِ مالها لعمر ابن الخطاب ، وصدرًا من خلافة عثمان ، ولمـَّا سيَّره عُمر  إلى الكوفة كتب إلى أهلها: «إنِّي قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا، وعبد الله بن مسعود معلِّمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمدٍ H، من أهل بدر؛ فاسمعوا، وقد جعلتُ ابن مسعود على بيت مالكم؛ فاسمعوا، فتعلَّموا منهما، واقتدوا بهما، وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي»[12].

ولا شك أن ابن مسعود  يُعدُّ من أذكياء العالم كما يقول عنه الذهبي، وقد مكث ابن مسعود في الكوفة خمسة عشر عامًا؛ ولذا نراه قد ربَّى جيلًا فريدًا، وقد تخرج من تحت يديه أعلام من التابعين بالكوفة: كعلقمة بن قيس، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وغيرهم كثير.

ولذا فإن الكوفة تمثِّل مدرسة علمية عظيمة، ففي الكوفة أمر عليٌّ أبا الأسود الدؤلي  بوضع قواعد النحو، وقامت في الكوفة -منذ ذلك الحين- مدرسةٌ في علوم اللغة، أصبحت بعد ذلك هناك منافسة منهجية بينها وبين مدرسة البصرة، وتزعَّما كلاهما فقه النحو، وعلوم اللغة وأصولها.

وقد شرفُت الكوفةُ بأن نالتِ الحظَّ الأوفر من إمارة بعض الصحابة عليها: كسعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة الحارثي، وابن مسعود، وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، وزياد بن حنظلة، وعمار بن ياسر، وأبي موسى الأشعري، وجبير بن مطعم، والمغيرة بن شعبة، والوليد بن عقبة[13].

ولذا نقول: إن مدينة الكوفة من أهم المدن التي لعبت دورُا كبيرُا في العصور الإسلامية، فهي من المدن الأعلام، وهي تمثِّل تاريخًا عريقًا للمسلمين، وهي حاضرة العرب والمسلمين.

فهذه هي الكوفة، فهي مدينة أسَّسها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحت رعاية ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب [14].

 

 

 

[1]  معجم البلدان (4/290)، والبكري الأندلسي: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع (4/1141).

[2]   ابن أبي شيبة: الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، والحاكم: المستدرك على الصحيحين، وابن الجوزي: كشف المشكل من حديث الصحيحين، ومحمد بن علي بن آدم بن موسى: مشارق الأنوار الوهاجة ومطالع الأسرار البهاجة في شرح سنن الإمام ابن ماجه، والفسوي: المعرفة والتاريخ.

[3]   الطبري: تاريخ الرسل والملوك (4/40).

[4]   الطبري، تاريخ الرسل والملوك (4/44).

[5]  الطبري، تاريخ الرسل والملوك (6-56).

[6]   ابن كثير، البداية والنهاية (7/358).

[7]    عبد الرزاق، المصنف (10/154) بإسنادٍ صحيحٍ، وابن سعد، الطبقات (3/4) بإسنادٍ صحيحٍ.

[8]   البيهقي، دلائل النبوة (6/438-441) وابن كثير، المصدر السابق (7/323-325).

[9]    رواه البيهقي في الدلائل (6/438)، والحديث في مسند أحمد (1/102)، وإسناده صحيح.

[10]  ابن سعد، الطبقات (3/27).

[11]  للاطلاع على تفاصيل أحداث الفتن السياسية، وأحداث موقعتي: الجمل وصفين، راجع كتابنا: «أحداث الفتن السياسية في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية».

[12]  رواه الطبراني في المعجم الكبير (8478)، والحاكم في المستدرك (5663)، وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرِّجاه»، ووافقه الذهبي.

[13]  المستشرق زامباور: معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي.

[14]  للمزيد من الاطلاع على تاريخ مدينة الكوفة، راجع: الطبري: تاريخ الرسل والملوك، والبلاذري: فتوح البلدان، وطقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى