مقالات متنوعة

حول تسجيل المكالمات دون إذن أصحابها

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فكلما تقدَّم الإنسان مِن البداوة -التي هي الأصل- إلى الحضارة وتقدمها، وكلما ظهرت تكنولوجيا جديدة في العالم؛ ترى بعض الناس يتعاملون مع كل ما هو حديث مِن أنواع التكنولوجيا والحضارة والتقدم بنوعٍ مِن السفه؛ فيأخذون كل ما هو سيء وقبيح، ويدعون كل ما هو طيب وصالح!

ولقد ظهر ذلك جليًّا في كيفية التعامل مع “الإنترنت”، وما أحدثه مِن تقدم في العالَم؛ حتى أصبح العالم كله الآن عبارة عن قريةٍ صغيرة، بل عبارة عن غرفة صغيرة تستطيع أن تطلع على كل ما يجري ويحدث بداخلها.

ومِن البرامج الحديثة التي انتشرتْ خلال هذه الفترة، برامج “تسجيل المكالمات” التي تٌجرى على الهاتف المحمول، وللأسف سارع كثيرٌ مِن الناس إلى تحميل هذه البرامج على الهواتف المحمولة، وأصبحوا يقومون بتسجيل جميع المكالمات دون إذنٍ مِن أصحابها، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ التَفَتَ، فَهِيَ أَمَانَةٌ) (رواه أبو داود الترمذي، وصححه الألباني). ومعنى (ثُمَّ التَفَتَ): أي غاب عنك وترك المجلس؛ فلا يجوز لكَ أن تٌحدث بما كان في المجلس إلا بإذنه.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إنّمَا المَجالِسُ بالأمانَةِ) (رواه أبو الشيخ في التوبيخ، وحسنه الألباني).

قال المناوي -رحمه الله-: “أي إن المجالس الحسنة إنما هي المصحوبة بالأمانة، أي كتمان ما يقع فيها مِن التفاوض في الأسرار؛ فلا يحل لأحدٍ مِن أهل المجلس أن يفشي على صاحبه ما يكره إفشاؤه” (فيض القدير).

ومِن الأمانة: أن لا تُسجَّل مكالمة إنسان يُعلم مِن حاله أنه يَكره ذلك ولا يأذن فيه، ولا سيما إذا ترتب على ذلك هتك للستر أو وقوع ضرر، فعن ابن عمر، قال: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا المُسْلِمِينَ وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ المُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وقال -تعالى-: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا) (الحجرات:112)، وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: (وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا) (متفق عليه).

قال الزمخشري: “التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستره، فيتوصل إلى الاطلاع عليهم، والتجسس على أحوالهم، وهتك الستر؛ حتى ينكشف لك ما كان مستورًا عنك” اهـ.

والتحسس: هو تتبع أخبار الشخص، والاستماع إلى ذلك؛ فدلَّ ذلك على عدم جواز تسجيل المكالمات.

ويُستثنى مِن ذلك: المكالمات التي يٌعلم مِن حال أصحابها أنهم لا يَكرهون ذلك، ولا يضرهم.

ويُستثنى أيضًا: المكالمات التي يترتب على تسجيلها مصلحة شرعية معتبرة، أو دفعًا لمفسدة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ؛ إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ، أَوْ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حق” (رواه أبو داود بسندٍ ضعيف).

فيجوز التجسس على اللصوص، وقطاع الطرق، والمفسدين، ونحوهم.

قال ابن الماجشون -رحمه الله-: “اللصوص وقطاع الطريق أرى أن يُطلبوا في مظانهم، ويُعان عليهم حتى يقتلوا أو ينفوا مِن الأرض بالهرب، وطلبهم لا يكون إلا بالتجسس عليهم وتتبع أخبارهم”.

إذن فالتجسس على المسلمين عبْر الإنترنت، وتسجيل المكالمات لا يجوز؛ إلا بالضوابط المذكورة سابقًا. والله أعلم.

زر الذهاب إلى الأعلى