المقالات

فِلَسطين بين وثيقة كامبل بنرمان ومؤتمرات هرتزل

فِلَسطين بين وثيقة كامبل بنرمان ومؤتمرات هرتزل

 بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، 

فلا تزال المؤامرات تُحاك ضد أمة الإسلام منذ تأسيس دولة الإسلام الأولى بالمدينة النبوية المنورة، ولقد لعب اليهود وغيرهم من أعداء الأمة دورًا خبيثًا  خلال العصر النبوي بالمدينة، حيث كثرت جرائمهم ومؤامراتهم ضد المسلمين، ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لعب ابن سبأ اليهودي أيضًا دورًا  خبيثًا خلال خلافة عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، مما ترتب عليه مقتل أمير المؤمنين عثمان ، ثم وقوع موقعة الجمل.

ومنذ ذلك العصر ولا تخلوا حقبة من الحقب التاريخية دون مكائد تحاك من قِبل أعداء الأمة، للنيل من وحدتها، وإضعاف قوتها، وتشتيت شملها، وقد شملت المكائد والمؤامرات مناطق مختلفة، فأحيانًا تكون في المنطقة العربية؛ مصر والشام والعراق، أو تكون في بلاد المشرق الإسلامي؛ بلاد فارس وما وراء النهر، أو بلاد المغرب والأندلس، وقع ذلك في عصر الدولة الأموية والعباسية، ودولة الإسلام في الأندلس، وكذا في عصر الدولة العثمانية.

 وفي عصر قوة الدولة العثمانية  وقف العالم الغربي ينظر ويتابع تقدم الدولة  في الفتوحات، تعتريه الدهشة، وهو يراها تتقدم نحو القسطنطينية، وبلجراد، والبلقان، وبلغاريا، وغاليبول، والمجر، وجزيرتي: قبرص ورودس، وقد تقدمت الدولة العثمانية حتى إنها حاصرت أبواب فيينا، والعالم يقف ويشاهد وهو مكتوف الأيدي نحو تقدمها، ولا شك أن تلك الفتوحات أحدثت دويًا هائلًا في العالم آنذاك.

وخلال السطور التالية نسلط الضوء على نموذجين من المؤامرات التي حيكت ضد المسلمين والعرب وفلسطين، وهو ما يعرف بوثيقة كامبل بنرمان، ومؤتمرات هرتزل.

وثيقة كامبل بنرمان وجهود هرتزل:

ترتبط  قصة  وثيقةكامبل بنرمان ببداية فكرة تجميع اليهود في دولة واحدة، حيث كانوا يعيشون بلا وطن، ويعانون من التشتت والتمزُّق في شتى أنحاء العالم، وذلك حتى حملة نابليون بونابرت الفرنسي عام  (1799م)،  حيث دعا نابليون يهود آسيا وإفريقيا إلى أن ينضموا إلى حملته، من أجل بناء مدينة القدس القديمة، وقد جنَّد منهم عدداً كبيراً في جيشه، إلاَّ أنَّ هزيمة نابليون قد أوقفت تنفيذ الفكرة.

ثم ظهرت الفكرة مرة أخرى على الساحة، وبدأ  عدد كبير من زعماء الغرب وكبار اليهود يهتمون بها، ويدعون إليها، وعلى رأس هؤلاء؛ الزعيم الصهيوني “تيودور هرتزل” والذي يُعد مؤسس الحركة الصهيونية، وهو يهودي مجري، وُلد عام (1860م)، و درس الحقوق في جامعة فيينا، ثم عمل مراسلًا صحفيًا في باريس، وقد انشغل هرتزل بهموم وأوضاع اليهود في العالم، وتبنى فكرة إقامة وطن لليهود، وكتب كتابه الشهير: “الدولة اليهودية”، وتم نشر الكتاب عام (1896م)، وكان هرتزل في الخامسة والثلاثين من عمره.

وكان هرتزل يتمتع بهمة عالية، ويؤمن بفكرته ويسعى لتحويلها إلى واقع بشتى السبل، ولذا طاف العالم يطلب المساندة ويعرض مشروعه، فقابل إمبراطور ألمانيا، والسلطان عبد الحميد الثاني، ووزير خارجية بريطانيا، ووزير داخلية روسيا، والبابا في روما، والزعيم مصطفى كامل في مصر، وغيرهم كثير.

ثم  دعا أعلام وأقطاب اليهود في العالم لعقد مؤتمر يخض اليهود، وبالفعل عُقد المؤتمر الأول في مدينة بازل بسويسرا في أغسطس من عام (1897م)، وجاء في خطاب افتتاح هذا المؤتمر: ” إننا نضع حجر الأساس في بناء البيت الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية “، ثم اقترح هرتزل برنامجًا لتحقيق هذا الهدف، وقد شهد هرتزل بعد ذلك خمسة مؤتمرات صهيونية أخرى، ثم توفي في فيينا عام(1904م)، وتم نقل ما تبقى من رفاته إلى مدينة القدس عام (1949م).

 ثم قام اليهود  بدراسة حال المستعمرين، فوجدوا أن دولة بريطانيا هي أنسب من يقوم بهذا الأمر، وذلك لرغبتها  في وضع داء سرطاني خبيث في وسط الأمة الإسلامية، على أن يكون مواليًا  للغرب، لاسيما وأن  بريطانيا تحتل كثيرًا من الدول العربية، وهنا تلاقت مصالح الحركة الصهيونية مع مصالح الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا أيام كانت عظمى، وبالفعل تم اتخاذ خطوات مهمة لتحقيق ما يرومونه ويسعون إليه.

لقد ذكر كثير من الباحثين والكتَّاب أن مؤتمرًا عُقد بلندن عام ( 1905م)، بدعوة من حزب المحافظين البريطاني، ووفقًا لما  جاء في الجزء الأول من “ملف وثائق فلسطين” الصادر عن الهيئة العامة للاستعلامات في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر عام – 1969م – صفحة 121- أن “مؤتمر لندن الاستعماري”  عُقد سراً.

وقد شارك في المؤتمر كل من الدول التالية : بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، وإيطاليا،  وقد استمرت المباحثات لمدة عامين تقريبًا، وشارك في المؤتمرسياسيون ومفكرون وباحثون.

حتى خرج المشاركون بعد عامين تقريبًا من المباحثات، بوثيقة سرية عنوانها “وثيقة كامبل” نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آن ذاك، هنري كامبل بنرمان.

ومفاد الوثيقة  “إن إقامة حاجز بشري قوي غريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معاً بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية ومصالحها، هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة”.

ومن المعلوم أننا لسنا  بحاجة إلى وثيقة كامبل بنرمان، حتى نتيقن من هدف هؤلاء،  فعندنا من الأدلة والوقائع والأحداث التاريخية الحديثة والمعاصرة، ما يكفي ويؤكد على أن الاستعمار  قد احتل بلادنا وقسمها ومزقها وتآمر عليها ونهب ثرواتها.

لكن الوثيقة تدل على مدى خطورة ما تحياه أمتنا،  وحجم ما يحاك لها من مكائد ومؤامرات، وتظهر قدر التحديات،  فهؤلاء قد اتفقوا  وتعاهدوا على تدمير وتمزيق  العالم العربي والإسلامي.

 علمًا بأن تلك “الوثيقة” لم يجد أحدٌ لها أثراً  الآن، على الرغم من كثرة  الجهود  التي بذلها بعض الباحثين من أجل الحصول على أصل الوثيقة، مثل الباحث الفلسطيني الراحل أنيس الصايغ، الذي أمضى شهراً في بريطانيا، في دار الوثائق البريطانية، ومكتبة المتحف البريطاني، وجامعة كامبريدج، يبحث عن أصلها فلم يجده، ولكن الحديث عنها قد تواتر بين الباحثين والسياسيين، والواقع هو خير شاهد على صدق ثبوتها.

فمن المحتمل أن يكون اليهود أو غيرهم قد قاموا بإخفائها في وقت من الأوقات، خشية تنبه العرب والمسلمين  لمخططاتهم، فإن كتاب هرتزل “الدولة اليهودية” لم يتم ترجمته إلى الإنجليزية إلا في عام (1936م)، أي بعد أربعين سنة من طباعته ونشره، وقد نُشر في طبعته الأولى باللغة الألمانية فقط.

وعند استقراء التاريخ العثماني بحيادية وإنصاف، نجد أن الدولة العثمانية ظلت لمدَّة خمسة قرون تقريبًا وهي تُؤدِّي دور المدافع الأوَّل والوحيد عن ديار المسلمين والعرب، وكانت قوَّتهم العسكريَّة تدوي في أنحاء أوروبا، وتقف في وجه الصليبيين على مختلف الجبهات.

وكانت الدولة العثمانية كذلك تقف حجر عثرة أمام هجرة اليهود إلى فلسطين، وإقامة وطن لهم على أرضها.

حيث كانت هناك محاولات مستميتة من أجل هذا الهدف خلال العصر العثماني، إلى أن جاء المبعوث اليهودي هرتزل إلى السلطان عبد الحميد الثاني، عام (1902م)، وقد حاول هرتزل استغلال حالة التردي الاقتصادي التي تعاني منها الدولة، وعرض على السلطان أية مبالغ يطلبها، وسداد ديون الدولة، وذلك مقابل فتح باب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين، وكان هرتزل يعلم مدى الضائقة المالية التي تمرُّ بها الدولة العثمانية؛ لذلك حاول إغراء السلطان بحل مشاكل السلطنة المالية، مقابل تنفيذ مطالب اليهود، ولكنَّ السلطان ما وهن وما ضعف، وما استكان أمام الإغراء حينًا، والوعد والوعيد حينًا آخر؛ حتى أدرك اليهود في النهاية أنه ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة، فإن حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم سيظل بعيد المنال.

ويَشهد لذلك ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، – وهي عند كثير من الباحثين عبارة عن توصيات أو محاضر جلسات المؤتمر الصهيوني الأول -، وما جاء في مذكّرات هرتزل نفسه الذي يقول بمناسبة حديثه عن مقابلته للسلطان: “ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحدٍ من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا ما، فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ فإنَّ عمل المِبْضَعِ في بدني لأهون عليَّ مِن أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون”.

ولكن للأسف الشديد: استطاع اليهود بعد ذلك بمؤامراتهم ومكائدهم  أن يسيطروا على الأرض المقدسة، وتم عزل السلطان عبد الحميد عام (1909م).

العلاقة بين مؤتمر كامبل بنرمان، و سايكس بيكو، و وعد بلفور:

إن المتأمل والمتدبر لتسلسل الأحداث، يعلم أن اتفاقية سايكس بيكو، و وعد بلفور، ما هما إلا  نتاج مؤتمر كامبل بنرمان .

أولاً: اتفاقية سايكس بيكو: وهو اتفاق تم عام ( 1916م)، أثناء الحرب العالمية الأولى بين بريطانيا وفرنسا، وبموافقة روسيا،  على تقسيم الدول الواقعة تحت سيطرت الدولة العثمانية، وهي سوريا والعراق ولبنان و فلسطين، على أن تخضع للسيطرة الفرنسية والبريطانية، وقد سميت الاتفاقية باسمي المفاوضين اللذين أبرماها وهما : مارك سايكس البريطاني، و جورج بيكو الفرنسي.

ثانيًا: وعد بلفور: أصدرت بريطانيا وعداً من “بلفور” رئيس وزرائها، ثم وزير خارجيتها عام (1917م)، أعلن فيه أن بريطانيا تمنح اليهود حق إقامة وطن لهم على أرض فلسطين.

بل إن أحداث الاضطراب والمظاهرات وأحداث الشغب التي وقعت في إسطنبول في 30مارس عام (1909م)، والتي على إثرها تم عزل السلطان عبد الحميد الثاني ، ليست هي الأخرى  إلا  إحدى الخطوات التي خطط لها هؤلاء.

وأخيرًا: فإن مؤتمر كامبل بنرمان، لا يقل خطورة ولا إجرامًا عن اجتماع المشركين في دار الندوة بمكة المكرمة، وذلك قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أن تعاهدوا واتفقوا على ضرورة وأد حركة الدعوة الإسلامية، وفي ذلك الاجتماع يقول الله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(30 الأنفال).

فيجب علينا أن نفتش في تاريخ مؤامرات هؤلاء، وأن نكون على بينة من أمرنا،  وأن نسعى بكل ما أوتينا من قوة لإفشال مخططاتهم، وأن نأخذ بأسباب النصر والتمكين، والله المستعان([1]).

 

 

 ([1]) للمزيد راجع: الدولة اليهودية: تيودر هرتزل، ويوميات هرتزل: للباحث أنيس صايغ، ووثيقة كامبل السرية وتفتيت الوطن العربي: مركز الكاشف للمتابعة والدراسات الاستراتيجية، وملفات فلسطينية د. علاء بكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى