في ذكرى سقوط الأندلس
في ذكرى سقوط الأندلس
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فلا شك أن تاريخ الأمة الإسلامية تاريخ حافل بصفحات مضيئة مشرقة، وقد تمثل هذا في كثير من الفتوحات الإسلامية والإنجازات الحضارية.
ولقد لعب المسلمون خلال القرون الأولى دورًا رائدًا في حر كة دوران التاريخ، حيث ازدهرت الحضارة، وأشرقت شمس الإسلام في ربوع الدنيا، وشهد غير المسلمين بحضارة الأمة المسلمة، وذلك في كثير من البلاد، ومن البلاد التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، بلاد الأندلس، حيث تحولت قرطبة إلى قبلة للعلم والعلماء، وكانت البعثات العلمية الأوروبية تجول مكتبات قرطبة لتنهل من علوم المسلمين.
ومن المعلوم أن عبد الرحمن الداخل رحمه الله والمعروف بصقر قريش، هو مؤسس الدولة الأموية في بلاد الأندلس، وقد اهتم صقر قريش بنشر العلم، وإقامة المدارس والمعاهد التعليمية، وقد استكمل أبناء البيت الأموي جهود صقر قريش، حتى أصبحت قرطبة مهدًا للعلوم والفنون، ومصدرًا للتقدم والحضارة، لا سيما في القرنين الثالث والرابع الهجريين.
وقد قدر الله تعالى أن تسقط دولة الإسلام في الأندلس بعد ثمانية قرون، وكانت آخر المدن سقوطًا مدينة غرناطة.
ولذلك يحتفل الإسبان بذكرى سقوط مدينة أو مملكة غرناطة، وهو الاحتفال المعروف، بـ”استعادة غرناطة” أو ” ذكرى الاسترداد”؛ وهو يصادف الثاني من شهر يناير من كل عام، ومن مظاهر احتفال الإسبان؛ توزيع آلاف الأعلام، والتجمع في كثير من الميادين، ورفع بعض الشعارات، ولعل مظاهر الاحتفال تظهر بصورة أكبر وأوضح بمدينة غرناطة، آخر المدن سقوطًا كما ذكرنا.
هذا وقد مرت الأندلس منذ فتحها عام ( 92هـ/ 711م)، وحتى سقوط غَرناطة عام (897هـ/ 1492م)، بعدة عصور ومراحل، على النحو التالي:
أولًا: مرحلة الفتح الإسلامي: وقد استمرت ما يقارب أربع سنوات، ( 92-95هـ/ 711-714م).
ثانيًا: عهد الولاة: (95- 138هـ/ 714-755م)، وعصر الولاة هو أن يتولى حكم الأندلس أحد الولاة التابعين للخليفة الأموي في دمشق، ويبدأ هذا العهد بولاية عبد العزيز بن موسى بن نصير، وهذا العهد استمر حتى دخول عبد الرحمن الداخل بلاد الأندلس وإقامة الدولة الأموية، وقد استمر هذا العهد اثنان وأربعون سنة تقريبًا، وقد تولى عشرون واليًا حكم الأندلس في هذه العهد.
ثالثًا: عهد الإمارة الأموية: (138- 316هـ/ 755- 929م)، وقد استمر هذا العهد منذ دخول عبد الرحمن الداخل حتى إعلان الخلافة على يد عبد الرحمن الناصر (الثالث)، عام 316هـ، وكانت الأندلس خلال تلك الفترة عبارة عن إمارة أموية مستقلة عن الخلافة العباسية، استمرت مائة وثمان وسبعين سنة.
رابعًا: عهد الخلافة الأموية: ( 316 – 422هـ/ 929- 1031)، وقد بدأ هذا العهد بإعلان الناصر للخلافة حتى وفاة الحكم المستنصر عام 366هـ، أو حتى نهاية القرن الرابع وقد تخلل هذا العهد عصر الدولة العامرية.
خامسًا: عهد ملوك الطوائف: (422 – 479 هـ/ 1031- 1086م)، وهذا العهد
سبقته حالة من الفوضى، وقد استمر عصر ملوك الطوائف حتى دخول المرابطين بلاد الأندلس، حيث انقسمت البلاد في عصر ملوك الطوائف إلى اثنتين وعشرين دويلة متناحرة، مما استدعى دخول المرابطين الأندلس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
سادسًا: عهد المرابطين: (479- 541هـ/ 1086- 1146م)، فبعد تقسيم الأندلس في عصر ملوك الطوائف وتفكيك قوة الدولة، وضعف وحدة المسلمين، استطاع النصارى الإسبان أن يسيطروا على بعض المدن الأندلسية، فاستغاث أحد ملوك الطوائف وهو المعتمد بن عبَّاد أمير مدينة إشبيلية بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين بالمغرب، فتحرك المرابطون نحو الأندلس دفاعًا عن ديار المسلمين، ثم دخلت الأندلس تحت لواء المرابطين.
سابعًا: عهد الموحدين: (541- 642هـ/ 1146- 1244م)، فبعد أن ضعفت دولة المرابطين في آخر عهدها، سيطر الموحدون بقيادة محمد بن تومرت على الأوضاع، وحكموا معظم مدن الأندلس.
ثامنًا: مملكة غَرْنَاطَة وسقوط الأندلس: فبعد أن ضعفت سيطرة الموحدين في الأندلس، سقطت كل مدن الأندلس بأيدي الإسبان الواحدة تلو الأخرى، ولم يبق للمسلمين سوى مدينة غَرْنَاطَة، وقد استمرت لمدة تقرب من 250 سنة، شامخة تحفظ للمسلمين تاريخهم وتراثهم وحضارتهم، ولكنها سقطت في نهاية المطاف عام 897هـ ، وبسقوطها غربت شمس الإسلام ببلاد الأندلس.
أهم أسباب سقوط دولة الإسلام في الأندلس:
إن الغاية من دراسة حركة التاريخ، أن نستخلص الدروس والعبر، وأن نقف على مواطن الخلل، وأن نتعرف على أسباب التقدم وصناعة المجد، وكذلك أسباب السقوط والانهيار.
ومن أهم أسباب سقوط الدولة الإسلامية في بلاد الأندلس؛ ركون كثير من أبناء الأمة إلى الدنيا، والانشغال باللهو والملذات والشهوات، وانتشار صور الفساد المختلفة، وضياع أبناء الأمة من الشباب، والتخلي عن الجهاد في سبيل الله تعالى.
وكذلك من أسباب سقوط الأندلس: وقوع الاختلاف والفرقة، وتمزق وحدة الأندلس وتحولها إلى دويلات متناحرة، وقد وقع ذلك منذ عهد ملوك الطوائف، ولذا قال تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
ومن أسباب سقوط الأندلس: تضييع مفهوم الولاء والبراء: فلقد تعاون بعض حكام المسلمين في الأندلس مع ألفونسو وغيره ضد إخوانهم المسلمين، بل وكانوا يدفعون له الجزية، قال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
ومن أسباب سقوط الأندلس: العصبية القبلية والقومية، و ذوبان وشيجة الإسلام والإخوة الإسلامية، فلقد وقعت بعض الصراعات بين البربر وبين العرب، وبين سكان الأندلس الأصليين الذين دخلوا الإسلام، وبين الصقالبة، و بين القبائل القيسية واليمنية.
ومن أسباب سقوط الأندلس: نظام ولاية العهد، حيث كان لنظام ولاية العهد الوراثى أثره السيىء على الدولة الإسلامية، فلقد تولى العرش بعض الأبناء الذين تسببوا في ضياع الدولة، ولم يكونوا أهلًا للإمارة.
ومن أسباب سقوط الأندلس أيضًا: تخاذل ملوك الطوائف عن نصرة بعضهم البعض، وكثرة الثورات الداخلية وحركات المعارضة، وعدم استجابة بعض الحكام لنصائح العلماء، وإهمال بعض العلماء لقضايا الأمة والتخلي عن واجب الوقت، وإهمال فريضة الجهاد.
وجميع الأسباب سالفة الذكر ذكرناها مُجملة، ولكنها في كتب التاريخ تحتل صفحات كثيرة، وعلى القارىء الكريم أن يراجع تفاصيل تلك الأسباب في مواطنها ومراجعها.
وهكذا في ذكرى ضياع الأندلس، وسقوط مملكة غرناطة، في شهر يناير من كل عام، نتذكر صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، أضاءت ثمانية قرون ثم أظلمت.