بشائر مِن الهزائم (2) الحملات الصليبية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا زلنا نثبت بالواقع الملموس أن الهزائم تكون أحيانًا هي الخطوة الأولى نحو النصر والتمكين، وقد ألقينا الضوء في المقال السابق على هزيمة غزوة “أُحد” وكيف كانت تلك الهزيمة هي بداية الانطلاق نحو النصر والتمكين.
وإذا تأملنا تاريخ “الحملات الصليبية” التي كانت بدوافع وبواعث دينية في المقام الأول، ثم مِن أجل بعض المطامع في الدول الإسلامية، نرى أن فترة الحروب الصليبية استمرت حوالي مائتي عامٍ، شهدت سبع حملات صليبية قام بها العديد مِن ملوك أوروبا، وقاومت فيها الأمة الإسلامية بكل ما استطاعت مِن قوة، وأظهرت هذه الفترة مجموعة مِن الأبطال والمجاهدين والقادة: كـ”عماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي”، وغيرهم مِن القادة المجاهدين الفاتحين.
ففي عام 492هـ – 1099م اقتحم النصارى بيت المقدس وأخذوها، ودخلوا المسجد الأقصى وقتلوا فيه مِن المسلمين نحو سبعين ألفًا، حتى خاضت ركب الخيل في دماء المسلمين! هزيمة مروِّعة بعد حصار دام واحدًا وأربعين يومًا، وقد احتمى المسلمون بالمسجـد الأقصى بعد أن قاوموهم ما استطاعوا، وقد تبعهم الصليبيون داخل المسجد وذبحوهم بوحشية بالغة، وأَسَالُوا بحرًا مِن الدماء!
يقول “ابن خلدون” -رحمه الله- في كتابه العِبَر: “استباح الفرنجة بيت المقدس، وأقاموا في المدينة أسبوعًا ينهبون ويدمِّرون، وأُحصِي القتلى بالمساجد فقط مِن الأئمة والعلماء والعبّاد والزهاد المجاورين فكانوا سبعين ألفًا أو يزيدون… “، وكان الصليبيون يبقرون بطون الموتى، ويذبحون الأطفال بلا شفقة ولا رحمة، ودنس الصليبيون المسجد الأقصى بالخنازير، ورفعوا الصليب، ومنعوا صلاة الجماعة بالمسجد أكثر مِن تسعين عامًا.
وهنا أطلَّ الظلام بوجهه على العالم الإسلامي آنذاك، واسودّت الدنيا في وجوه كثير مِن المسلمين بعد احتلال المسجد الأقصى ووقوع أولى القبلتين في أيدي الصليبيين، وأصيبت القلوب بنوعٍ مِن اليأس والهزيمة النفسية المدمرة، وظن كثيرٌ مِن الناس أن هذه هي النهاية، ولكن الحقيقة أن هذه الهزيمة كانت نقطة البدء لمرحلة جديدة مِن مراحل يقظة أبناء الأمة المسلمة، ويذكر التاريخ النصر المظفر لـ”صلاح الدين” -رحمه الله- بعد الحملة الصليبية الثانية، وذلك في موقعة “حِطّين” حيث تمكنت جيوش “صلاح الدين” مِن استرداد “عكا، ويافا، وبيروت، وجُبَيْل، ثم عسقلان، وغَزَّة”، وذلك بعد معارك دامية.
وفي أواخر جُمادى الآخرة سنة 583هـ – 1187م اتجه “صلاح الدين” صوب “القدس”، وبعد حصارٍ شديدٍ دخل صلاح الدين -في مشهد مهيب- المدينة المقدسة في 27 رجب 583هـ – 1187م، بصورة إنسانية تناقض وحشية الصليبيين حين غزوها قبْل بضع وثمانين سنة، وأكرم أسرى الصليبيين، فأمر جنوده بعدم الاعتداء عليهم وعلى ممتلكاتهم، وسمح لهم بالخروج آمنين سالمين إلى حيث شاءوا مِن المدن الصليبية الأخرى القريبة.
وكان يحرص على إعفاء فقراء الصليبيين مِن المال الذي فرضه عليهم لإطلاق سراحهم؛ وبذلك استطاع “صلاح الدين” أن يلقِّن الصليبيين الغربيين درسًا في الأخلاق كانوا في أشد الحاجة إليه.
وقد كان “صلاح الدين” يعطي الأمان لمن يريده، ويسيِّر رجاله مِن الشرطة في الشوارع لمنع أي اعتداء على النصارى!
وهكذا حرر “صلاح الدين” مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك بعد ما يقرب مِن تسعين عامًا تقريبًا، وعادت الأرض المقدسة لحظيرة الإسلام مرة أخرى، وهكذا تكون البشائر مِن الهزائم.
وللحديث بقية -إن شاء الله تعالى-.