مقالات تاريخية

بشائر مِن الهزائم (3)

سقوط بغداد والخلافة العباسية

بقلم د. زين العابدين كامل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا زلنا نثبت بالأحداث التاريخية أن الهزائم تكون أحيانًا هي الخطوة الأولى نحو النصر والتمكين، وقد ألقينا الضوء سابقًا على هزيمة “غزوة أُحُد” والحملات الصليبية، وما حدث بعد ذلك مِن نصر وتمكين.

وفي هذا المقال نذكر مشهدًا تاريخيًّا لدخول “التتار” دار الخلافة “وسقوط بغداد”.

لقد اجتاحت جيوش التتار كثيرًا من البلاد، وقد نجحوا في السيطرة عليها، حتى وصلوا إلى بلاد الشام، وقد وضع هولاكو خطة من أجل الاستيلاء على بغداد، والقضاء على الخلافة العباسية، التي أدركتها الشيخوخة وظهرت عليها مظاهر الضعف والانهيار.

وقبل أن يُقدم هولاكو على غزو بغداد، استشار المنجمين، فيما يتعلق بأحكام النجوم وطوالعها، أما الفلكي حسام الدين الذي جاء برفقة هولاكو فقد كان سنياً يعطف على الخليفة العباسي ويحرص على أن يمنع هولاكو من الإقدام على غزو بغداد، فراح يؤكد له أن هذه الحملة تحدث خللًا في نظام الكون، فضلاً عن أنها سوف تكون وبالاً على الخان نفسه، فكان مما قاله له، الحقيقة أن كل ملكٍ تجاسر حتى هذه اللحظة على قصد الخلافة والزحف بالجيش على بغداد لم يبق له العرش ولا الحياة، وإذا أبى الملك أن يستمع إلى نصائحي، وتمسك بمشروعه فسينتج عنه ستة مصائب كبيرة:

.تموت الخيول كلها، ويمرض الجنود.

ـ لن تطلع الشمس.

ـ لن ينزل النبات في الأرض.

ـ لن ينزل المطر.

ـ تهب رياح شديدة، ويعاني العالم من الزلازل.

ـ يموت الخان الأعظم في هذا العام.

وأما الأمراء فقد رغبوا في الهجوم على بغداد، ثم استدعى هولاكو خان، الخائن نصير الدين الطوسي لاستشارته، ولما كان الطوسي يكره الخليفة، ويعمل على إسقاطه، فقد نقض كل ما قاله حسام الدين، وطمأن هولاكو بأنه لا توجد موانع تحول دون إقدامه على الغزو.

حصار بغداد:

وعلى إثر ذلك أصدر هولاكو أمره بأن تتحرك جيوش المغول من أطراف بلاد الروم عن طريق إربل والموصل متجهة نحو بغداد لتحاصرها من الجهة الغربية، وتنتظر حتى تصل إليهم جيوش هولاكو من الناحية الشرقية.

ولما رأى الخليفة حرج موقفه، أراد أن يثنيهم عن عزمهم على إتمام الفتح، وذلك بإرسال الرسل والهدايا، ولكن هولاكو لم يستجب لهذا النداء، ولجأ الخليفة إلى صديقه مؤيد الدين العلقمي الشيعي الرافضي وسأله ماذا يفعل؟ فأشار إليه الوزير بأن يخرج لمقابلة هولاكو بنفسه لكي يجري معه مفاوضات، عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ خَرَاجِ الْعِرَاقِ لِهَمْ وَنِصْفُهُ لِلْخَلِيفَةِ.

وذهب الرسل إلى هولاكو تخبره بقدوم الخليفة، فأمر هولاكو أن يأتي الخليفة ولكن ليس وحده، بل عليه أن يأتي ومعه كبار رجال دولته، ووزرائه وفقهاء المدينة، وعلماء الإسلام، وأمراء الناس والأعيان، حتى يحضروا جميعاً المفاوضات، فجمع الخليفة كبار قومه، وخرج بنفسه في وفد مهيب إلى خيمة هولاكو خارج الأسوار الشرقية لبغداد، خرج وقد تحجرت الدموع في عينيه وهو يرتعد، وهو الذي كان يستقبل في قصره وفود الأمراء والملوك، وكان أجداده الأقدمون يقودون الدنيا من تلك الدار التي خرج منها الخليفة الآن، وكان الوفد كبيرًا يضم سبعمائة من أكابر بغداد، وكان ضمن الوفد وزيره مؤيد الدين العلقمي، واقترب الوفد من خيمة هولاكو، ولكن قبل الدخول على زعيم التتار هولاكو خان حُجِبُوا عَنِ الْخَلِيفَةِ، إِلَّا سَبْعَةَ عَشَرَ نَفَسًا، فَخَلَصَ الْخَلِيفَةُ بِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ، وَأُنْزِلَ الْبَاقُونَ عَنْ مَرَاكِبِهِمْ وَنُهِبَتْ وَقُتِلُوا عَنْ آخِرِهِمْ.

لقد قُتل الوفد بكامله إلا الخليفة والذين كانوا معه، قتل كبراء القوم، ووزراء الخليفة، وأعيان البلد، وأصحاب الرأي، وفقهاء وعلماء الخلافة العباسية، وبدأ هولاكو يصدر الأوامر في عنف وتكبر، واكتشف الخليفة أن وفده قد قتل بكامله، وعرف أن التتار وأمثالهم لا عهد لهم ولا أمان، وكانت أوامر هولاكو على النحو التالي:

 

  • على الخليفة أن يصدر أوامره لأهل بغداد بإلقاء أي سلاح، والامتناع عن أي مقاومة.

  • يقيد الخليفة العباسي، ويساق إلى المدينة، يرسف في أغلاله، وذلك لكي يدل التتار على كنوز العباسيين، وعلى أماكن الذهب والفضة والتحف الثمينة وكل ما له قيمة نفيسة في قصور الخلافة وفي بيت المال.

  • يتم قتل ولدي الخليفة أمام عينيه، فقتل الولد الأكبر أحمد أبو العباس وكذلك قتل الولد الأوسط عبد الرحمن أبو الفضائل، وأُسر الثالث مبارك أبو المناقب، كما يتم أسر أخوات الخليفة فاطمة وخديجة ومريم.

  • أن يستدعي من بغداد بعض الرجال بعينهم، وهؤلاء هم الرجال الذين ذكر ابن العلقمي أسماءهم لهولاكو، وكانوا من علماء السنة، وكان ابن العلقمي يكن لهم كراهية شديدة، وبالفعل تم استدعاؤهم جميعاً، فكان الرجل منهم يخرج من بيته ومعه أولاده ونساؤه، فيذهب إلى مكان خارج بغداد عينه التتار بجوار المقابر، فيُذبح كما تذبح الشاة، وتؤخذ نساؤه وأولاده إما للسبي أو للقتل.

ثم تم استباحة بغداد، وأتوا على كل ما فيها، فخربوا المساجد بقصد الحصول على قبابها المذهبة، وهدموا القصور بعد أن سلبوا ما بها من تحف نادرة، وأباحوا القتل والنهب وسفك الدماء، ويقدر المعتدلون من المؤرخين عدد القتلى بنحو ثمانمائة ألف نسمة وقيل أقل وقيل أكثر من ذلك، ولم يقتصر التتار على قتل الرجال الأقوياء فقط، وإنما كانوا يقتلون الكهول والشيوخ، وكانوا يقتلون النساء إلا من استحسنوها منهن، حيث كانوا يأخذونها سبياً، وَأُسِرَ مِنْ دَارِ الْخِلَافَةِ مِنَ الْأَبْكَارِ مَا يُقَارِبُ أَلْفَ بِكْرٍ فِيمَا قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

ولم يسلم إلا من اختفى في بئر أو قناة، وقد استمرت هذه الغارة أربعين يوماً، اندلعت فيها ألسنة النيران في كل جانب، فالتهمت كل ما صادفها، وأتت على الأخضر واليابس.

وأخيرًا بعد أن سفك هولاكو من الدماء ما سفك، وبعد أن خرب ما خرب، أصدر أمره بالكف عن القتل، وبأن ينصرف كل إلى عمله، يقول ابن كثير:ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، ولقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى”.

لقد تم تدمير مدينة بغداد، حتى المساجد والجوامع والمدارس والمكتبات أشعلوا فيها النيران، بحيث ظلت النيران تتأجج ليالي عديدة تسطع وهاجة في حلك الظلام، وقد نهب المغول كل التراث الذي امتلكه الخلفاء العباسيون، وأهالي بغداد من أثاث وسجاد وأقمشة من حرير وأقطان وكتان، ودام القتل والنهب أربعين يوماً كما ذكرنا، وبعد هذه الأربعين من التخريب والتمزيق أصبحت بغداد في حالة من الدمار والخراب لا تصدقها العيون.

وقد استُهدفت مكتبة بغداد العظيمة، وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمان، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، جمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.

حمل التتار الكتب الثمينة، وهي مئات الآلاف من الكتب القيمة، وألقوا بها جميعاً في نهر دجلة، وتحول لون المياه إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، حتى قيل إن الفارس المغولي كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى، وهذه جريمة حضارية في حق الإنسانية.

مقتل الخليفة المستعصم بالله:

لقد عامل هولاكو الخليفة معاملة سيئة للغاية، بحيث إنه حرم عليه الطعام، فلما أحس الخليفة بالجوع طلب طعاماً، فقدم له هولاكو طبقاً مملوءًا بالذهب، وأمره أن يأكل، فقال الخليفة كيف يمكن أكل الذهب؟ فرد عليه هولاكو إذا كنت تعرف أن الذهب لا يؤكل فلماذا احتفظت به ولم توزعه على جنودك حتى يصونوا لك ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولم لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطىء نهر جيحون لتحول دون عبوري؟  فأجاب الخليفة هكذا كان تقدير الله، فقال هولاكو وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله.

وفي رواية أخرى أن هولاكو عندما وجه هذه الأسئلة إلى الخليفة لزم الصمت ولم يحر جوابًا.

هذا وقد أخبر الخليفة هولاكو عن جميع الأموال التي كانت تملكها الدولة، ثم دله على وجود حوض مملوء بالذهب وسط القصر، فلما حفروا ذلك المكان وجودوه مملوءًا بالذهب الإبريز، وكانت كل قطعة منه تزن مائة مثقال، ثم أمر هولاكو بأن يحصوا حرم الخليفة وحاشيته، فوجدوا سبعمائة من النساء والسرايا وألفاً من الخدم، وعندما وقف الخليفة على تعداد نسائه قال في تضرع، امنحني تلك النسوة اللائي لم يكن يطلع عليهن ضوء الشمس ولا نور القمر.

وقال ابن كثير -رحمه الله-: “ وقد اختلف الناس في كمية مَن قتل ببغداد مِن المسلمين في هذه الوقعة. فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.

وأما عن الكيفية التي قتل بها المستعصم بالله، فقد تضاربت فيها روايات المؤرخين، فقيل خُنق، وقيل وضع في عدل ورفسوه حتى مات، وقيل غرق في نهر دجلة([1]).

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

 

 ([1]) راجع: ابن كثير: البداية والنهاية،  القلقشندي: مآثر الإنافة في معالم الخلافة، فؤاد عبد المعطى الصياد: المغول فى التاريخ.

 

زر الذهاب إلى الأعلى