بشائر مِن الهزائم (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد بدأ الصراع بيْن الحق والباطل منذ أن خلق الله الإنسان, قال الله -عز وجل-: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) (طه:117)، ومنذ تلك اللحظة ابتلي الإنسان بكيد الشيطان, وصراعه معه, وما زال الشيطان يكيد لآدم -عليه السلام- حتى وقع المشهد الأخير مِن القصة، وهبط آدم إلى الأرض, وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض, ثم استمر الناس بعد ذلك لقرونٍ طويلة على طريق الحق والإيمان، حتى وقع الانحراف بيْن الناس؛ فأرسل الله رسله بالهدى والحق إلى الناس، وهنا اشتد الصراع بيْن الرسل وبيْن أعدائهم؛ قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين”.
واستمر هذا الصراع بيْن الحق والباطل حتى بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، واستمر الصراع بيْن النبي -عليه الصلاة والسلام- وبين الكفار حتى ظهر الحق وزهق الباطل، وانتصر الإسلام على أعدائه، فلما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، استمر الصراع بيْن أتباع الرسول -عليه الصلاة والسلام- وبيْن أعداء الدين الذين يصدون عن سبيل الله، ولا زالت حركة الصراع قائمة إلى يوم الناس هذا.
وهذا الصراع يترتب عليه أنواع مِن التمحيص والاختبار والابتلاء؛ فتارة ينتصر الأعداء على أهل الحق، وتارة ينتصر أهل الحق على أعدائهم؛ فالحرب بينهم سجال، والذي أريد أن نتوقف معه ونلقي الضوء عليه: “فترة الهزائم التي يتعرض لها أهل الحق”.
فيا ترى ماذا يكون خلف الأحداث؟ وهل الهزيمة هي نهاية المطاف؟ وهل نتعلم منها للمستقبل، وهل تفيدنا في استلهام حاضرنا؟ وهل في الهزائم دروس وعبر، وهل هي بداية خطوة جديدة على الطريق نحو النصر؟
أقول: للإجابة على هذه الأسئلة لا بد مِن العودة إلى التاريخ؛ فإن أمة لا تقرأ تاريخها لا يمكن أن تعرف حاضرها، ولا أن تخطط لمستقبلها.
قال “شوقي” -رحمه الله-:
اقــرأ الـتـاريــخ إذ فــيـه الــعـبـر ضـلَّ قـوم لـيـس يـدرون الـخـبـر
إن هذه الدنيا كلها بما فيها مِن الأحداث درس وعبرة؛ يظهر للمؤمن فيها قدر الله -عز وجل- وقدرته وحكمته ومشيئته.
ومِن تدبر تواريخ الأمم السابقة، وأمعن النظر في حقائق التاريخ -لا سيما تاريخنا الإسلامي- يرى أن الهزائم ليست النهاية، بل تكون أحيانًا هي البداية؛ فإذا تدبرنا أحداث “غزوة أُحُد” وقد هُزم فيها المسلمون -بعد ما فعله بعض الرُّماة وعصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- نرى أن “غزوة أُحُد” كانت البداية الحقيقية لمرحلة التربية والإعداد؛ فلقد تعلّم الصحابة -رضي الله عنهم- مِن هذه الغزوة خطورة إيثار الدنيا على الآخرة، وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله ونَصرَه وتأييده، قال ابن مسعود: “ما كنتُ أرى أحدًا مِن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أُحُد: (مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران:152)“.
وفي ذلك درس عظيم يبيِّن أن حب الدنيا والتعلق بها قد يتسلل إلى قلوب بعض أهل الإيمان والصلاح، وربما خَفِي عليهم ذلك، فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقد نفسه وأن يبحث في نواياه، وأن الذي أصاب الصحابة إنما هو مِن شؤم المعصية، وبعد هذا الدرس العملي تعلّم الصحابة وأعادوا حساباتهم وراجعوا أنفسهم؛ فبسبب معصية واحدة خالف فيها الرُّماة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبسبب التنازع والاختلاف حول الغنائم، ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه وظهرت شرارته، قال الله -سبحانه-: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152).
لكن تربَّى الصحابة بعد ذلك، وانتصروا في غزوات ومعارك كثيرة، وتأمّل كيف ثأر الرسول -صلى الله عليه وسلم- لدماء لم تجف لما دارت الدائرة على المسلمين في آخر المعارك، ومضى منهم إلى الله -عز وجل- سبعون مِن الشهداء، وأُثخِن البقية بالجراح، وشُجَّ وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- وكُسِرت رباعيته، ودخلت حلقتا المِغْفَر في وجنته -عليه الصلاة والسلام-.
ثم رجعوا إلى المدينة وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينادي أهل “أُحُد” أن يخرجوا ليلحقوا بجيش المشركين، بأبي سفيان ومَن معهم مِن أهل قريش، أولئك القوم الذين جراحهم ما تزال تنزف دمًا، وما يزال الواحد منهم يحمل يده أو رجله المقطوعة، فماذا كان موقف الصحابة؟ ما تخلف منهم رجل واحد! قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:172-173)؛ خرجوا وما تخلف منهم رجل واحد؛ لأن الهزيمة لم تبلغ نفوسهم، ولم تبلغ إيمانهم فتُضْعِفه، بل كان إيمانهم أعظم مِن الجبال الرواسي، خرجوا وأقاموا في “حمراء الأسد” ثلاثة أيام بلياليها.
فلما أراد أبو سفيان -بعد أن مضى- أن يرجع إلى المدينة ويتتبع جراحات المسلمين، قال: “ما بلغنا مِن القوم مبلغًا؛ ما قتلنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ولا قتلنا أبا بكر، ولا عمر، ولا استأصلنا شأفتهم، ولا غزونا مدينتهم!”، وكان يفكر بالرجوع، فإذا به بأحد الأعراب، فسأله: ما خبر محمد؟ فقال: رأيته هو وأصحابه يجِدّ في أثركم؛ فلاذ أبو سفيان بالفرار، قناعة بالنصر الهزيل الذي حازه.
ثم توالت الانتصارات بعد ذلك تترًا على المسلمين، بعد أن تربوا وتعلموا مِن “غزوة أُحُد”؛ فكانت “غزوة أُحُد” هي البداية الحقيقية لطريق النصر؛ فانتصر المسلمون بعد ذلك في “بني النضير” و”بني المصطلق” و”الخندق” و”بني قريظة” و”خيبر” و”فتح مكة” و”حُنَين” و”تبوك”، ثم استكمل الصحابة -رضي الله عنهم- سجل الفتوحات بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.