مقالات متنوعة

عبودية المسلم في فصل الشتاء

الشتاء ربيع المؤمن

بقلم/ د. زين العابدين كامل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله جعل مرور الأوقات تذكرة لعباده المؤمنين، وللمؤمن في كل وقت من الأوقات عبودية لله، ومن سعادة العبد أن يعرف شرف الزمن وقيمة الوقت، وأن يعرف وظائف المواسم حتى يعمرها بطاعة الله -تعالى-، والشتاء ربيع المؤمن كما قال السلف.

والمسلم دائمًا يهتم بواجب الوقت الذي هو فيه، ويغتنم الفرص في كل زمان ليحقق عبوديته لله -سبحانه- التي خُلق من أجلها، وزمن الشتاء له واجباته التي يجب على المسلم أن يحافظ عليها.

الواجب الأول: تصحيح العقيدة:

لابد أن نعلم أن الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، هذه الشريعة هي التي تنظم شؤون الحياة ولن يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم؛ لذلك كان السلف يصححون أولاً العقيدة، وهذا هو الذي فعله المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فلقد أصَّل العقيدة في قلوب الصحابة في مكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا يربيهم على التوحيد الخالص ونبذ الشركيات بكل أنواعها وصورها، وقد تميز المنهج السلفي بأنه جمع بين العقيدة والعمل والسلوك؛ لأن هذه هي العلامات البارزة على طريق أهل السنة، وركن التوحيد أول الواجبات على كل مسلم ومسلمة.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه- لما أرسله إلى أهل اليمن: (إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ… (متفق عليه)، وفي رواية: (إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ… (متفق عليه)، وفي رواية: (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ -تَعَالَى-(رواه البخاري).

وكانت هذه المقدمة في أهمية التوحيد؛ لأننا نرى البعض في فصل الشتاء يمسك بيده ورقة مجدولة -على هيئة جدول- هذه الورقة فيها أسماء النوات ومواعيدها، فأردت أن أقف وقفة مع قضية النوء؛ لأن البعض ربما يظن أن سقوط الأمطار له علاقة بالنوء.

والنوء هو: منازل القمر ومواقع النجوم، قال الله -تعالى-: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(يس:39).

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: “وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور ثم يزداد نورًا في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياءً وإن كان مقتبسًا من الشمس حتى يكتمل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم، قال ابن عباس وهو أصل العـذق، وقال مجاهد: كالعرجون القديم: أي العذق اليابس”.

وقال في قوله -تعالى-: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(الواقعة:75): “قال مجاهد: مواقع النجوم في السماء، ويقال مطالعها ومشارقها، وقال قتادة: مواقعها منازلها، وقال الضحاك: يعني بذلك الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا”.

فكانت العرب تزعم أن هذه المنازل وهذه المواقع وهي الأنواء لها علاقة بسقوط الأمطار، فجاء الإسلام ليصحح هذه المفاهيم الخاطئة وينقي العقيدة من شوائب الشرك والخرافات.

لماذا خلق الله الكواكب والنجوم؟

قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ(الملك:5)، وقال -تعالى-: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(النحل:16)، قال قتادة: “إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال: خلقها الله زينة للسماء، ورجومًا للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ وتكلف ما لا علم له به”.

تحذير نبوي:

عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال قال: (أخافُ على أمَّتِي مِنْ بَعْدِي خَصْلَتَيْنِ تَكْذِيباً بالقَدَرِ وَتَصْدِيقاً بالنُّجُومِ(رواه أبو يعلى، وصححه الألباني).

وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله قال: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ(رواه مسلم).

حكم من ينسب سقوط المطر إلى النوء:

الاستسقاء بالنوء ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: شرك أكبر، وله صورتان: الأولى: أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوء كذا اسقينا أو أغثنا أو ما شابه ذلك، فهذا شرك أكبر؛ لأنه دعا غير الله، قال الله -تعالى-: (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ(يونس:106)، وقال -تعالى-: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(الأحقاف:5).

والصورة الثانية: أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها ولو لم يدعها، فهذا شرك في الربوبية، والأول في العبادة.

القسم الثاني: شرك أصغر: وهو أن يجعل هذه الأنواء سببًا مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل.

قال الإمام النووي -رحمه الله-: “من اعتقد أن الكوكب والنجم فاعل قدير مُنشئ للمطر كما كان يعتقد أهل الجاهلية؛ فهذا يكفر -والعياذ بالله-، وأما من اعتقد أن المطر من الله وفضله ورحمته وأن النوء ميقات له أو علامة فهذا وقع في محذور أو مكروه”.

الواجب الثاني: طاعات في موسم الشتاء:

إن فصل الشتاء من المواسم الفاضلة؛ لما فيه من أنواع الطاعات والقربات التي يتقرب بها العبد إلى الله -تبارك وتعالى-، ففيه نفحات يصيب الله بها من يشاء من عباده بفضله ورحمته فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات وتقرب فيها إلى مولاه، وفي الأثر عن أبي سعيد الخدري: “الشتاء ربيع المؤمن”.

وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات، ومن هذه العبادات:

أولاً: الصيام:

عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ(رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني)، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: “ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصيام في الشتاء”.

ومعنى كونها غنيمة باردة: أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة فصاحبها يحوز هذه الغنيمة بغير كلفة؛ وذلك لأن نهار الشتاء قصير فلا يشعر بمشقة من جوع أو عطش ولذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات، وفي الحديث: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْقِتَالِ(رواه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه الألباني)، وفي الحديث أيضًا: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ(رواه أحمد، وحسنه الألباني).

ثانيًا: قيام الليل:

قال -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ(الزمر:9)، ولما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة كان يحث على قيام الليل وأنه طريق إلى الجنة، فعن عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- قال: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لأَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلامٍ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

عن الحسن -رحمه الله- قال: “نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل فيقومه، ونهاره قصير فيصومه”، وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: “مرحبًا بالشتاء تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام”، وعن عبيد بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: “يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرءوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا”.

وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “ألا إن الله يضحك إلى رجلين: رجل قام في ليلة باردة من فراشه ولحافه ودثاره فتوضأ ثم قام إلى الصلاة فيقول الله لملائكته: ما حمل عبدي على ما صنع؟ فيقولون: رجاء ما عندك وشفقة مما عندك، فيقول الله: فإني قد أعطيته ما رجا وأمنته مما يخاف”.

وقال الحسن -رحمه الله-: “أفضل العبادة الصلاة في جوف الليل”، وكان صفوان وغيره من العُبَّاد يصلون في الشتاء بالليل في ثوب واحد ليمنعهم البرد من النوم، ومنهم من كان إذا نعس صب على نفسه الماء وقال: “هذا أهون من صديد جهنم”، قال الحسن البصري -رحمه الله-: “ما ترك أحد قيام الليل إلا بذنب أذنبه فتفقدوا أنفسكم عند كل ليلة عند الغروب وتوبوا إلى ربكم لتقوموا الليل”، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: “إذا غربت الشمس فرحت بالظلام حتى أخلو بربي”.

وكان أبو حصين كثير القيام بالليل، وكان يضع عصاه بجواره فإذا أحس أن رجليه لا تقويان على حمله ضربهما بالعصا، وقال: “أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً، والله لأزاحمنهم على الحوض يوم القيامة”، وقال حسن البنا: “دقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالنوم”.

ثالثًا: إسباغ الوضوء على المكاره:

اعلم أن من الوظائف الفاضلة في موسم الشتاء الوضوء في شدة البرد، وهو إسباغ الوضوء على المكاره، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟)، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ(رواه مسلم)، وفي رواية: (أَلا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيُكَفَّرُ بِهِ الذُّنُوبَ؟) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكْرُوهَاتِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَذَلِكَ الرِّبَاطُ(رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

وإسباغ الوضوء: تمامه على الوجه الأكمل، والمكاره: تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحو ذلك. قال القاضي عياض -رحمه الله-: “محو الخطايا كناية عن غفرانها”، قال: “ويحتمل محوها من كتاب الحفظة ويكون دليلاً على غفرانها”. ورفع الدرجات: إعلاء المنازل في الجنة. وقوله: (فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ): أي الرباط المرغوب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة، ويحتمل أن يكون أفضل الرباط كما قيل: جهاد النفس.                                           

الواجب الثالث: تأملات في آيات الله الكونية:

في فصل الشتاء نتعرض لبعض الآيات الكونية، مثل: الرياح والغيم والرعد والبرق، فلابد لنا من وقفة مع هذه الآيات، لابد أن نتفاعل معها كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفاعل مع الآيات الكونية، عن عائشة -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  َكَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَى النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ قَالَتْ: فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا) (رواه مسلم).

وأخذ يومًا بيد عائشة -رضي الله عنها- وأشار إلى القمر، وقال: (يَا عَائِشَةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الغَاسِقُ إِذَا وَقَبَ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتِ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ . تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (الأحقاف:24-25)، (رواه البخاري).

تأمل حال الرياح وأنها من آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته -جل وعلا-، قال -تعالى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(البقرة:164).

فما معنى تصريف الرياح؟

قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: “أي فتارة تأتي بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب، وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب وتارة تسوقه، وتارة تجمعه وتارة تفرقه، وتارة تصرفه ثم تأتي تارة من الجنوب وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمين وتارة صبا وهي الشرقية التي تقدم وجه الكعبة، وتارة دبورًا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة، وهكذا… “.

واعلم أن الريح جند من جنود الله يسخرها كيف يشاء فهي مأمورة مسخرة، لها عدة مهام ووظائف، ومن هذه المهام والوظائف: علاقتها بالأمطار.

اعلم أن الرياح تثير سحابًا: قال الله -تعالى-: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ . وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ . فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(بالروم:48-50)، وقال -تعالى-: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(فاطر:9)، وقال -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(الأعراف:57).

ففي هذه الآيات يبيِّن الله أثرًا من آثار قدرته ورحمته وذلك عندما أرسل الرياح مبشرات بالغيث، وهي التي تثيره -بإذن الله-، فيستبشر الخلق برحمة الله.

والرياح لواقح: قال -تعالى-: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ(الحجر:22)، فهذه الرياح تلقح السحاب فتدر ماءً، وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وآكامها.

وكذلك سير الله بها السفن في البحر: قال الله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(يونس:22).

وسخرها ربنا لسليمان -عليه السلام-: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ(سبأ:12).

وأهلك الله بها من شاء من عباده: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ . فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ(الحاقة:6-8)، ورد بها الأحزاب الذين حاصروا المدينة المنورة.

وهي كذلك التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الله -تَعَالَى- يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ اليَمَنِ ألْيَنَ مِنَ الحَرِيرِ فَلا تَدَعُ أحَدًا فِي قلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِنْ إيمانٍ إلاَّ قَبَضَتْهُ(رواه مسلم).

ومن الآيات كذلك: الرعد والبرق، فتشهد معنى القدرة لله -تعالى-، وتشاهد آثار ربوبيته -عز وجل-، قال الله -تعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(الروم:24)، وقال: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ . وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ(الرعد:12-13).

الواجب الرابع: أذكار فصل الشتاء:

الدعاء عند نزول الغيث: عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اطْلُبُوا اسْتِجابَةَ الدُّعاءِ عندَ الْتقاءِ الجُيُوشِ وإِقامَةِ الصّلاةِ ونُزُولِ الغَيْثِ(رواه الشافعي والبيهقي، وصححه الألباني)، ومن الدعاء المأثور: (اللهُمَّ اجْعَلْهُ صَيِّبًا هَنِيئًا(رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، ومن الدعاء: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ(متفق عليه)، الآكام: الهضاب، والآجام: الحصون، والظراب: الروابي الصغار، ومن الدعاء: (مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ(متفق عليه).

الدعاء عند هبوب الرياح:

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تُسُبُّوا الرِّيحَ فَإِنَّهَا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ، وَلَكِنْ سَلُوا اللَّهَ مِنْ خَيْرِهَا وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا(رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني)، وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تَسُبُّوا الرِّيحَ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مَا تَكْرَهُونَ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ هَذِهِ الرِّيحِ وَخَيْرِ مَا فِيهَا وَخَيْرِ مَا أُمِرَتْ بِهِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ هَذِهِ الرِّيحِ وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُمِرَتْ بِهِ(رواه الترمذي، وصححه الألباني).

الدعاء عند حدوث الرعد والبرق:

عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: (اللَّهُمَّ لا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ(رواه أحمد والترمذي، وصححه الشيخ أحمد شاكر)، و”كَانَ عبد الله بن الزبير إِذا سمع الرَّعْد ترك الحَدِيث وَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يسبح الرَّعْد بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَة من خيفته، وَيَقُول؛ إِن هَذَا الْوَعيد شَدِيد لأهل الأَرْض”، وكان طاوس التابعي يقول إذا سمع الرعد: “سُبْحَانَ مَنْ سَبَّحْتَ لَهُ”.

فينبغي علينا أن نغتنم فصل الشتاء في التقرب إلى الله -تعالى- بأنواع الطاعات والقربات، والسعيد من عرف وظائف المواسم حتى يعمرها بطاعة الله -تعالى-، والشتاء ربيع المؤمن.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى