مقالات تاريخية

تربية الأجيال وصناعة الأمم (عبد الله بن ياسين أنموذجًا)

عبد الله بن ياسين: شيخ المرابطين

بقلم/ د. زين العابدين كامل سيد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

هو: عبد الله بن ياسين بن مكوك بن سير بن علي الجزولي، ولد فى بداية القرن الخامس في طرف صحراء غانة، وتوفي في جمادى الأولى عام ( 451 هـ/1059م)، ينتمي إلى قبيلة جزولة إحدى فروع صنهاجة، وهو داعية ومجاهد ومربى وفقيه وقائد، من زعماء الإصلاح الإسلامي، جدد الإسلام بإفريقيا، وهو الذى وضع اللبنة الأولى لدولة المرابطين في المغرب الأقصى، ويلقبه البعض بالزعيم الديني لدولة المرابطين، قال عنه الذهبي: “كان عالمًا قوي النفس، ذا رأي وتدبير”، وتعود أصول المرابطين إلى قبيلتي جُدَالَة ولَمْتُونة.

لقد حاول عبد الله بن ياسين أن يجدد معالم الإسلام، في مجتمع كثر فيه الجهل، وانتشرت فيه المنكرات، وقد وصف القاضي عياض رحمه الله المجتمع بقوله: ” كان الدين عندهم قليلاً، وأكثرهم جاهلية، ليس عند أكثرهم غير الشهادتين، ولا يعرف من وظائف الإسلام سواهما([1]).   

 لقد تعلم عبد الله بن ياسين الفقه على يد فقيه السوس؛ وجاج بن زلوا([2]و رحل إلى الأندلس في عصر ملوك الطوائف، وأقام بها سبع سنوات، حيث اجتهد في تحصيل العلوم الإسلامية، حتى أصبح من أنجب الطلاب.

لقد دخل ابن ياسين مع الأمير يحيى بن إبراهيم عام (430هـ/ 1037م)، جنوب الجزائر وشمال موريتانيا حتى وصل إلى الجنوب منها، حيث قبيلة جُدَالة، وقد وجد عبد الله بن ياسين المنكرات قد انتشرت، ولا ينكر أحدُ على أحد، وكان الجهل قد أطبق على جُل الناس، فلا يعرفون من الإسلام إلا اسمه فقط، بل حتى الصلاة لا يؤديها أغلب الناس.

وهنا بدأ رحلة دعوية بين الناس، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينشر أحكام الإسلام،  وهو بذلك يحاول أن يصلح من أحوال المجتمع الذي استشرى فيه الجهل والفساد.

لقد تعارضت دعوة ابن ياسين مع بعض الأمراء والكبراء، من الذين يعيشون على المنكرات ويتكسبون من خلالها،  ولذا ثاروا عليه وعارضوا دعوته ومنهجه، وكادوا يقتلونه، وهنا ترك ابن ياسين قبيلة جدالة، وانتقل إلى قبيلة لمتونة، ورابط على مصب نهر السنغال، وقد ذاع صيته وعلت شهرته بين الناس، فهرع إليه كثير من الناس، ومن هنا تبدأ رحلته الدعوية مع المرابطين.

أصل المرابطين ونشأتهم                                                                            الرباط هو مراقبة العدو في الثغور، وقيل هو الإقامةُ في الثُّغورِ، و قيل هو مُلازَمةُ المَكانِ الذي بيْنَ المُسلِمينَ والكُفَّارِ؛ لِحِراسةِ المُسلِمينَ، وكلها عبارات مترادفة ومكملة لبعضها.

ويكون الرباط في  حصن حربي يُقام في الثغور من أجل الدفاع عن حدود الديار الإسلامية، وهذه التسمية لها أصل في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} ( الأنفال60)، وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، ومَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا، والرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا العَبْدُ في سَبيلِ اللَّهِ، أَوِ الغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا”.   

 وكلمة مرابط تطلق على الشخص الذي يخرج إلى الثغور للدفاع عن المسلمين وديارهم، وقد نالَ المُرابِطُ في سَبيلِ اللهِ هذا الأجْرَ؛ لِمَا فيه مِنَ المُخاطَرةِ بالنَّفسِ مِن أجْلِ حِفظِ الإسلامِ والمُسلِمينَ.

وقد اشتهرت القبائل الصنهاجية في التاريخ باسم الملثمين، وأصبح اللثام شعارًا عرفوا به إلى أن تسموا بالمرابطين، ويرى بعض المؤرخين أن الملثمين ينتسبون إلى قبيلة لمتونة، إحدى بطون صنهاجة، وكانت لمتونة تتولى رئاسة سائر قبائل مسوفة، ومسراتة، ومداسة، وجدالة، ولمطة، ثم آلت الرئاسة إلى قبيلة جدالة في عهد الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي([3]).

 عبد الله بن ياسين و نواة المرابطين:

لقد أقام ابن ياسين بجزيرة بالحوض الأدنى لنهر السنغال، وكان اختيار هذا الموطن عن طريق الأمير يحيى بن إبراهيم، حيث قال لابن ياسين: “إن هاهنا في بلدنا  جزيرة في البحر، إذا حسر دخلنا إليها على أقدامنا، وإذا ملا دخلنا في الزوارق، وفيها الحلال المحض الذي لا تشك فيه من الشجر البرية، وصيد البر والبحر من أصناف الطير والوحش والحوت، فندخل إليها، فنعيش فيها بالحلال ونعبد الله حتى نموت، فقال ابن ياسين: هذا حسن، هلم بنا ندخلها على اسم الله”([4]).

وهكذا غادر ابن ياسين ديار الملثمين مع الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، إلى نهر السنغال للمرابطة في تلك الجزيرة المذكورة، التي اختارها الأمير يحيى كما ذكرنا، وهناك أسس فيها رباطًا للعبادة، والدعوة، والتعليم.

كان دخول ابن ياسين الجزيرة عام (433هـ/1040م)،  ومعه أتباعه حتى تكاثر عددهم إلى ألف رجل، وكان ذلك الرباط عبارة عن مدرسة علمية منهجية، حيث كان ابن ياسين يُعلم أتباعه الفقه على مذهب الإمام مالك رحمه الله، فهذا الرباط كان عبارة عن  جهاد وعلم، وكان المرابطون يعيشون حياة مثالية في رباطهم، حيث كانوا يتعاونون من أجل الحصول على قوتهم اليومي، معتمدين على ما توفره لهم جزيرتهم من الصيد البحري، ويقنعون بالقليل من الطعام، ويلبسون الخشن من الثياب، ويحافظون على أنواع العبادة المختلفة، بجوار تلقيهم للعلوم الشرعية،  وتدريبهم على فنون القتال.

وقد قام ابن ياسين بتقسيم المرابطين إلى مجموعات، ليسهل متابعتهم، واتخذ مجلسًا للشورى من أتباعه.

وبعد انتهاء مرحلة الإعداد والتكوين العقدي والفقهي والتربوي، بدأ ابن ياسين يفكر في مرحلة الدعوة، حيث أمر ابن ياسين أتباعه بأن يذهب كل واحد منهم إلى قبيلته يدعوهم إلى الله تعالى.

ثم تحرك المرابطون إلى قبيلة جدالة، يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ووقعت بينهم معركة شديدة، ثم ساروا إلى قبيلة لمتونة، فانتصر المرابطون عليهم، ودخلوا في طاعته وبايعوه على إقامة الكتاب والسنة، وهكذا بدأت الدعوة تزداد وتنمو، ويكثر أتباعها.

علمًا بأن المرابطة قد بدأت أولاً بسبعة أشخاص فقط، منهم الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي، ويحيى بن عمر اللمتوني، وكان ذلك عام (433هـ/ 1041م).

وبذلك أصبحت القبائل الصنهاجية في المغرب الأقصى، لها قيادة دينية وسياسية، ولها مجلس شورى، فتطلعت إلى توحيد المغرب الأقصى، ونشر الدعوة بين القبائل والمجتمعات.

وبالفعل في عام (447هـ/ 1055م)، اجتمع فقهاء سجلماسة ودرعة وكتبوا إلى ابن ياسين يطالبونه بالدخول إلى بلادهم، لتخليصهم من الحكام الطغاة، فتحرك  المرابطون نحو درعة وسجلماسة ووقع قتال بين الطرفين، انتصر فيه المرابطون وتشتت جيش عدوهم، وتمت السيطرة الكاملة للمرابطين.

 لقد كان الرباط الذي أسسه عبد الله بن ياسين منارة علمية، أضاءت ما حولها، حيث كان نورها يشع نحو القبائل والديار.

ثم تنتهي قصة المؤسس والمربى الشيخ عبد الله بن ياسين بمقتله عام (451هـ/ 1059م)، فى إحدى الحروب بعد أن أمضى أحد عشر عامًا تقريبًا في تربية الرجال على الجهاد.

وقد اختار المرابطون بعد مقتل زعيمهم الروحي الشيخ عبد الله بن ياسين؛ أبا بكر بن عمر اللمتوني خلفًا له.

هذا وقد ظهرت عدة شخصيات ساعدت على توسع المرابطين وسيطرتهم وبسط نفوذهم في بلاد المغرب، ومن أشهرها؛ يوسف بن تاشفين رحمه الله([5]) .

وهكذا في صفحات التاريخ المشرقة، نلمح هذا النموذج الذي قاد حركة تغيير وإصلاح سجلها له التاريخ.

 

([1]) القاضي عياض: أبو الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي، ترتيب المدارك وتقريب المسالك (80/81).

([2]) وقيل يسمى: أوكاد بن زلوه اللمطي.

([3]) حمدي عبد المنعم حسين: تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين، ص 27.

([4]) سعدون عباس نصر الله: دولة المرابطين في المغرب والأندلس ص 22.

([5]) للمزيد راجع: ابن أبي زرع: روض القرطاس، الذهبي: سير أعلام النبلاء، القاضي عياض: ترتيب المدارك، محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون.

زر الذهاب إلى الأعلى