مقاصد المكلفين (8)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف حول أمر النية وأهميتها للعبد، وقد ذكرنا في المقال السابق: أن الحساب يوم القيامة يكون على نية العبد، فهي المقياس الذي يحاسَب العباد على أساسه، ثم نود أن نشير إلى أن النيّات هي التي تميز الأعمال، وهذا يدل أيضًا على خطورة أمر النية وما تمثله من أهمية بالغة، فربما تتفق الأعمال في الصورة والمظهر، ولكن يتميز بعضٌها عن بعض بالنيات، وربما كان الفعل الواحد من أعظم الطاعات إذا نوى به صاحبه نيّة صالحة، ويكون كذلك من أعظم الذنوب إذا نوى به نية سيئة، كالناطق بالشهادتين يريد الإسلام حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، فإذا نطق بهما نفاقًا لأجل دنيا فهو بأشر المنازل -والعياذ بالله-.
وكذا مَن سجد لله -تعالى-، فإذا سجد طاعة وخضوعًا وتعبدًا وانقيادًا، فقد أتى قربة من أعظم القربات، والساجد لغير الله فعله من أعظم الذنوب، وكذا الذبح صورته واحدة، فالذي يذبح لغير الله فقد أذنب وعصى، والذي يذبح لله؛ فقد بر وأطاع، وحقق قوله -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)، وهناك مَن يذبح على سبيل العادة التي تعود عليها.
ومِن أنواع التمييز أيضًا:
أن النيات تميز رتب العبادات: فالنية هي التي تميز راتبة الفجر عن فرض الفجر إذا صلاهما المصلي منفردًا، وبها يتميز القضاء عن الأداء، والصدقة المستحبة عن الصدقة الواجبة، وحج الفريضة عن حج النافلة، وتميز بين النوافل: فهذه نافلة العشاء، وهذه نافلة الفجر، وهذه صلاة استخارة، وتلك قيام ليل، وهكذا.
وكذلك النية تميز بين العبادات والعادات: فالإمساك عن الطعام والشراب قد يكون عبادة وطاعة لله -تعالى-، وقد يكون علاجًا، والطبيب هو مَن أوصى بذلك مثلًا، وغسل أعضاء الوضوء قد يكون قربة، وقد يكون عادة وتنظفًا، فقد نصّ ابن حزم -رحمه الله- في المحلَّى على أنَّ الذي خلط بنية الطهارة للصلاة نية التبرد أو غير ذلك لم تجزه الصلاة بذلك الوضوء، برهان ذلك قوله -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدينَ) (البينة:5)، فمَن مزج بالنية التي أُمر بها نيّة لم يؤمر بها فلم يخلص لله -تعالى- العبادة بدينه ذلك، وإذا لم يخلص فلم يأتِ بالوضوء الذي أمره الله -تعالى- به.
وممَن ذهب هذا المذهب القرطبي -رحمه الله- فقال في تفسيره: “مَن تطهر تبردًا، أو صام محمّا لمعدته، ونوى مع ذلك التقرب، لم يجزه؛ لأنه مزج في نية التقرب نية دنياوية، وليس لله إلاّ العمل الخالص كما قال -تعالى-: (أَلَا لله الدِّينُ الْخَالِصُ) (الزمر:3)، وقال: (وَمَا أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدوا الله مخْلِصِينَ لَهُ الدينَ) (البينة:5)”.
واستدلّ في موضع آخر بآية سورة هود: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) (هود:15)، على أن مَن توضأ لتبرد أو التنظف لا يقع قربة مِن جهة الصلاة، وهكذا كلّ ما كان في معناه،
وفي انتظار الإمام المأموم في الركعة والركوع قال بعضهم: أخاف أن يكون شركًا، وهو قول محمد بن الحسن، وبالغ بعض أصحاب الشافعي فقال: “إنّه مبطل للصلاة”.
وقال النووي -رحمه الله- في المجموع: “قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأبو يوسف والمزني وداود: لا ينتظر الإمام حال ركوعه القادم كي يدرك الركعة، واحتج لهؤلاء بعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بالتخفيف، وبأن فيه تشريكًا في العبادة”.
ونقل المزني هذا القول عن الشافعي؛ لأن هذا الانتظار يشوب الإخلاص، ويذكر المزني أنه اطلع على رواية أخرى للشافعي يجيز ذلك، ومع هذا فقد رجح الأول، وفي التجارة في الحج قد ذهب بعض الفقهاء إلى عدم جواز التجارة. وقال بعضهم، بل تجوز، والأكمل ألا يفعل.
ونحن لسنا بصدد مناقشة هذه المسائل من الناحية الفقهية، بل ذكرنا مثل هذه الأقوال لنبيِّن فقط خطورة أمر النيات، وأنها تؤثر على العمل تأثيرًا كبيرًا.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.