رجال يعدلون أُلوفًا
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
لقد تواترت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور والتسابق في فعل الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، ولقد ذم الله تعالى المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالذي هو أدنى مِن الذي هو خير، فقال تعالى في شأنهم: ﴿رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ﴾، وبيَّن سبحانه أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد فقال: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ﴾، وذم الله عز وجل الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر هممهم، وغاية علمهم، باعتبار هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة، وبيَّن أن هذا الركون إلى الدنيا تَسَفُّل يترفع عنه المؤمن ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.
وأثنى الله تعالى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ لما حاصر خالد بن الوليد (الحيرة) وطلب من أبي بكر مددًا، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: «لا يهزم جيش فيه مثله»، وكان يقول: «لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!»، وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص يسأله: أي فارس أيام القادسية كان أفرس؟ وأي رجل كان أرجل؟ وأي راكب كان أثبت؟ فكتب إليه: لم أرَ فارسًا مثل القعقاع بن عمرو، حمل في يوم ثلاثين حملة، ويقتل في كل حملة كمِيًّا .. فهؤلاء هم أصحاب الهمم العالية التي تناطح السحاب.
ومِن هؤلاء الرجال أيضًا، الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد. وهؤلاء الذين أرسلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه مددًا لفتح مصر لما أبطأ عليه الفتح؛ كما في كنز العمال وغيره. قال عمر رضي الله عنه: إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف رجل منهم رجل مقام الألف. وفي رواية عن زيد بن أسلم قال: لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص: أما بعد: فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر.. وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تعالى لا ينصر قومًا إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف؛ إلا أن يكون غيرهم ما غير غيرهم. فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمر الناس أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله وليسألوه النصر على عدوهم. فلما وصل الكتاب إلى عمرو جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ثم يرغبون إلى الله ويسألونه النصر، ففتح الله عليهم.
إن رجلًا واحدًا قد يساوي مائة، ورجلًا قد يوازي ألفًا، ورجلًا قد يزن شعبًا بأسره، وقد قيل: «رجل ذو همة؛ يحيي أمة». ونحن نحتاج أن نتذكر هؤلاء وأمثالهم، وأن نتعرف على سيرتهم العطرة؛ حتى نرفع هممنا الضعيفة، فما الذي قدمناه لدين الله تعالى؟ نحن بالنسبة لهؤلاء لم نقدم شيئًا.
ولا شك أننا نمر بمرحلة خطيرة وحرجة للغاية خلال هذة الحِقبة التاريخية، فهناك صراعات فكرية وعقدية على الساحة الدولية بصفة عامة وفي منطقة الشرق الأوسط بصفة خاصة، بل قد نالت منطقة الشرق الأوسط النصيب الأوفر من هذه الصراعات، وقد امتدت هذه الصراعات أيضًا إلى عُمق وبطون كثير مِن الدول الإسلامية والعربية حتى وصلت إلى التيارات والكيانات والتكتلات داخل البلد الواحد، وفي خضم هذه الصراعات التي نشهدها الآن نحتاج إلى رجال مِن طراز فريد، ومِن نوع خاص .. رجال يصدقون مع الله .. رجال المهام الصعبة وأصحاب المهمات الخاصة التي لا يصلح لها إلا هم فقط .. رجال جعلوا جُل همهم هو الدين والدعوة إلى الله تعالى، ونرجو الله أن يستعملنا، وأن نكون من هؤلاء، قال أحد الحكماء: «ثلاثة لا يُعرَفون إلا في ثلاثة مواطن: لا يُعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا في الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة»، والرجال معادن تظهر وقت الشدائد، فعندما يتعرضون لنار حارقة؛ منهم مَن يذوب وينصهر، ومنهم مَن يزيده الإحراق بريقًا ولمعانًا، فنحن نحتاج إلى رجال، الواحد منهم يعدل ألفًا أو مائة أو عشرة أو نحو ذلك.
روى البخاري في صحيحه عن عَبْد اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ الْمِائَةُ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً».
وفي رواية مسلم: «تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة»، قال الخطابي: تأولوا هذا الحديث على وجهين:
أحدهما: أن الناس في أحكام الدين سواء لا فضل فيها لشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع؛ كالإبل المائة التي لا يكون فيها راحلة، وهي التي ترحل لتركب والراحلة فاعلة بمعنى مفعولة؛ أي: كلها حمولة تصلح للحمل ولا تصلح للرحل والركوب عليها.
والثاني: أن أكثر الناس أهل نقص، وأما أهل الفضل فعددهم قليل جدًّا، فهم بمنزلة الراحلة في الإبل الحمولة ومنه قوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال الإمام النووي رحمه الله مُعقِّبًا على قول الإمام الخطابي قال: وهذا أجود، أي: القول الثاني أجود.
وقال ابن بطال: معنى الحديث أن الناس كثيرون، والمرضى منهم قليلون، وإلى هذا المعنى أومأ البخاري بإدخاله في باب رفع الأمانة؛ لأن من كانت هذه صفته فالاختيار عدم معاشرته.
وأشار ابن بطال إلى أن المراد بالناس في الحديث من يأتي بعد القرون الثلاثة، الصحابة والتابعين وتابعيهم حيث يصيرون يخونون ولا يؤتمنون؛ ففي هذا الحديث يشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بمائة من الإبل يبحث فيها صاحبها عن واحد ليتخذه للركوب، وهي الراحلة، فيكاد ألا يجد، فالمعنى لا تجد في مائة إبل راحلة تصلح للركوب؛ لأن الذي يصلح للركوب ينبغي أن يكون وطيئًا سهل الانقياد، وكذا لا تجد في مائة من الناس رجلًا سهلًا وطيئًا ينفع الناس.
«إنما الناس كالإبل المائة، لا تكاد تجد فيها راحلة».. فاسأل نفسك يا عبد الله: أين نحن من هؤلاء الرجال؟ ندعو الله تعالى أن يستعملنا لنصرة دينه، ولا يستبدلنا بغيرنا ..والله المستعان.