السير عكس اتجاه الكون
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فإن سير السيارات عكس اتجاه الطريق أمر مذموم، له سلبياته وخطورته على الأفراد؛ فهناك عشرات ومئات الحوادث تقع كل يوم بسبب هذه الجريمة، وكم من أناس لقوا حتفهم وماتوا، وأناس يعيشون وهم يعانون من فَقد أحد أعضائهم في حادثة تعرضوا لها في الطريق بسبب السير عكس الاتجاه؛ ولذا فهو جريمة يعاقَب فاعِلُها..
وقد أجمع على ذلك العقلاء، ومع ذلك فإن هناك فئة من الناس لا زالت تصمم على ارتكاب هذة الجريمة النكراء! ونحن نعجب من هؤلاء الذين لم يتعلموا من الواقع ولم تمنعهم العقوبة، والأعجب من ذلك أن هناك من يسير عكس اتجاه الكون كله!!
نعم هناك من يسير عكس اتجاه الكون كله، وذلك بكُفرِه بالله عزّ وجلّ، لأن الكون كلَّه يوحِّد الله تعالى ويعبده، كما قال تبارك وتعالى: “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات:56(، فالعبودية هي الغاية من وراء هذا الخلق، والعبودية هي: الخضوع والانقياد والطاعة لله تبارك وتعالى. واصطلاحاً هي: الأعمال الصالحة التي تُؤدى لله تبارك وتعالى..
العبودية تنقسم إلى عامة وخاصة
فالعبودية العامة هي عبودية القهر والتسخير لنفاذ أمر الله تبارك وتعالى في كل شيء، فلا يقدر كائن أن يمتنع عن شيء جَبَله الله عليه، وهذه العبودية تشمل جميع الكائنات؛ حتى الطغاة الجبارين والظالمين والكافرين، إذا شاء الله سبحانه وتعالى أن يقبض روح أحدهم قبضها، وإن شاء أن يمرضه أمرضه، وإن شاء أن يشفيه شفاه وإن شاء أن يفقره أفقره؛ فيتصرف في خلقه -سبحانه وتعالى- بما شاء، ولا رادّ لمشيئته ولا لقضائه تبارك وتعالى، ولا يستطيع أحد أبدًا أن يخرج عما يقدره الله له.
فهذه العبودية تشمل جميع الناس: المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، وأهل الجنة وأهل النار، يقول تبارك وتعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ[آل عمران:83]، ويقول تبارك وتعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا[مريم:93]؛ فجميع الكائنات لا تخرج عن مشيئته وقدرته وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر.
أما العبودية الخاصة فهي العبودية الاختيارية، عبودية الطاعة والانقياد والمحبة والاختيار، وهذه العبودية تصدر من المؤمنين الموحِّدين الطائعين الذين يقومون بطاعته تعالى، من الجن والإنس والملائكة.
وبناءً على ما سبق، فالخلق كلهم عبيد ربوبيته عزّ وجلّ، وأهل طاعته وولايته هم عبيد ألوهيته..
وهناك من الناس من يسير عكس اتجاه الكون بجحوده بوحدانية الله تعالى وبِشِرْكِه بالله تعالى، وبعدم طاعته لله وحده؛ فلنتأمل أحوال الكائنات، وهل هي تسير في اتجاه الكون أم تسير عكس الاتجاه.
والكائنات قسمها العلماء إلى عُلويّة وسُفليّة
أما العُلويّات فيقصدون السماء والكواكب والنجوم والفلك، والملائكة، والعرش والكرسي، ونحو ذلك.
وأما السُفليّات فالنار والهواء والماء والتراب، والرياح والسحاب، والأرض والجبال والشجر والبحار والأنهار والأحجار، والحيوانات والإنسان والنبات والطيور.
وهذه الكائنات كلها تتعبد لله تعالى، كعبادة السجود؛ يقول تبارك وتعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ” [الحج:18]. “وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” [النحل:48-50].
وهناك عبادة التسبيح؛ يقول تبارك وتعالى: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً” [الإسراء:44].
وأيضاً عَلَّم الله سبحانه وتعالى كلَّ كائن من هذه الكائنات كيفية التسبيح الخاصة به؛ يقول عز وجل: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ” [النور:41]، وهذه الصلاة ليست بالضرورة مكونة من ركوع وسجود ونحو ذلك، وإنما هو تسبيح خاص ألهمها الله -عزّ وجلّ- إياه، فقوله تعالى: “كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ” [النور:41]، يعني: أن الله علم صلاة كل شيء من هذه الكائنات وتسبيحها، ويقول -صلى الله عليه وآله وسلم-: (ما تستقل الشمس -يعني: ما تشرق الشمس وترتفع- فيبقى شيء من خلق الله إلا سبَّحَ اللهَ بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، حديث صحيح، صححه الألباني)، يعني: كل من لم يسبح الله في هذا الوقت فهو من أغبياء بني آدم، أو من الشياطين.
فكل هذه الكائنات مسلمة لله عز وجل، كما قال سبحانه: “أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ” [آل عمران:83]. وليس هذا فحسب، بل جميع الكائنات تؤمن بنبوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، في حين كَفَر به كثير من الإنس وكذَّبوا برسالته -صلى الله عليه وآله وسلم-، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنه ليس من شيء بين السماء والأرض إلا يعلم أني رسول الله، إلا عاصي الجن والإنس)، رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
فكيف يستقيم لبشر أن يسير عكس هذا الكون كله، وعكس هذه الكائنات والموجودات التي تعترف بوحدانية الله تعالى ، بل وتعبده وتطيعه، كيف لعبدٍ خَلَقَه الله أن يكفر بخالِقِه جلّ وعلا ، كيف لعبد يكون أقل من الحيوانات التي شهدت بوحدانية الله تعالى ؟!