رسائل البريد العاجل إلى الشباب الحائر (8)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
نعيش اليوم مع شاب فريد من نوعه، نقدمه للشباب، هو أحد شباب الإسلام، وأتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، يظل أكثر من خمسين عامًا يحمل سلاحه، ويسدد رماحه، ويدافع عن حمى الدين، ويحفظ حرمات المسلمين، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين، إنه البطل القائد الفاتح أبو سعيد، مسلمة بن عبدالملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي، الذى عاش ما يقرب من نصف قرن من الزمان في ميدان الجهاد والكرامة، فهو بطل من أبطال التاريخ، مدحه المؤرخون وأهل السير.
مسلمة بن عبد الملك، الجرادة الصفراء
روى ابن عَساكر في تاريخ دمشق، عن الزُّبَيْر بن بَكَّار أنه قال في تَسْمِيَة وَلَد عبد الملك بن مَرْوان: “ومَسْلَمَة بن عبد المَلِك، وكان من رجالهم، وكان يُلَقَّب الجَرادة الصَّفْراء، وله آثارٌ كثيرة في الحُروب، ونِكايةٌ في الرُّوم”. وقال البَلاذُرِيُّ في أَنْساب الأَشْراف عن مَسْلَمَة: “وكان صاحب رَأْيِهم، وقال في مَوْضع آخر كان شجاعًا، وله مَغازٍي كثيرة بالرُّوم، وأَرْمِيْنِيَة”. وقال الجَاحِظُ في البَيان والتَّبْيِين: “كان مَسْلَمَة شجاعًا خَطيبًا، وبارِعَ اللسان جَوادًا، ولم يكن في وَلَد عبد الملك مِثْلَه، ومِثْلَ هشامٍ بعده”. وقال ابن عَبْد رَبِّه في العِقْد الفَريد: “ولم يكن لعبد الملك بن مَرْوان ابنٌ أَسَدَّ رَأْيًا، ولا أَذْكَى عَقْلًا، ولا أَشْجَع قَلبا، ولا أَسْمَحَ نَفْسًا، ولا أَسْخَى كَفًّا من مَسْلَمَة”.
وقال الذَّهَبِيُّ في سِيَر أَعْلام النُّبَلاء: “الأَمير الضّرْغام، قائد الجُيوش”، وقال: “له مَواقِف مَشْهُودة مع الرُّوم، وهو الذي غَزا القُسْطَنْطِينِيَّة، وكان مَيْمون النَّقِيْبة”، وقال: “كان أولى بالخِلافة من سَائر إخوته”. وقال في العِبَر: كان مَوْصوفًا بالشَّجاعة والإقْدام، والرَّأْي والدَّهاء”. وقال في تاريخ الإسلام: “وكان بطلًا شجاعًا مَهيبًا، له آثار حَميدة في الحروب”.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية: “كانت لمَسْلَمَة مَواقف مَشهورة، ومَساعٍ مَشْكورة، وغَزوات متتالية مَنْثُورة، وقد افتتح حُصُونًا وقِلاعًا، وأحيا بعَزْمه قُصُورًا وبِقاعًا، وكان في زمانه في الغَزَوات نَظِير خَالد بن الوليد رضي الله عنه في أيامه، في كَثْرَة مَغازِيه، وكَثْرة فُتُوحه، وقُوة عَزْمِه، وشِدَّة بَأْسِه، وجَوْدَة تَصَرُّفه في نَقْضِه وإبْرامِه، وهذا مع الكرم والفصاحة” انتهى.
وقد بدأ مسلمة رحلة جهاده وهو في ريعان الشباب، فلم يعرف للراحة طعما، بل كانت راحته يحياها ويشعر بها وهو في ميدان الجهاد، تحت أصوات السيوف.
ففي سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم، وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقي الروم في عدد كثير، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية، فقتل منهم بشرا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا.
وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم يسمى “طوانة”، في شهر جمادى الآخرة، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك، وهزم المسلمون أعداءهم. ويروى أن العباس قال لبعض من معه: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال له: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعا، فهزم الله أعداءهم.
وفي سنة ثمان وثمانين -أيضا- غزا مسلمة الروم مرة أخرى، ففتح ثلاثة حصون، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة، وحصن الأخرم ،وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى، حيث فتح حصن سورية، وقصد عمورية، فوافق بها للروم جمعا كثيرا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية. وفي سنة تسع وثمانين -أيضا- غزا مسلمة الترك، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هناك. وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة -ومعه عمر بن الوليد- أرض الروم، ففتح الله على يدي مسلمة ثلاثة حصون، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم.
وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم، فافتتح ماسة، وحصن الحديد، وغزالة، وبرجمة من ناحية ملطية. وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا، وفتح حصنا يقال له: حصن عوف. وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية، وطال الحصار، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة. وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها.
وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند، وولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين ثم أرمينية.
وفي سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله.
وفي سنة عشر ومائة –أيضاً- قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوًا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالما غانما. وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان، وبث فيها الجيوش، وفتح مدائن وحصونا، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر، وفي سنة ثلاث عشرة –أيضًا- توغل مسلمة في بلاد الترك، فقتل منهم خلقًا كثيرا، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر.
توفي مسلمة يوم الأربعاء لسبع مضين من المحرم، سنة إحدى وعشرين ومائة، في موضع يقال له: الحانوت، وقيل: سنة عشرين ومائة، وقيل: سنة ثنتين وعشرين ومائة. مات مسلمة عن عمر يناهز الرابعة والخمسين، وقد ذكر البَلاذُرِيُّ أن مَوْلَد مَسْلَمة بن عبد الملك كان في العام الذي أخرج فيه عبدُ الله بن الزُّبَيْر رضي الله عنه بني أُمَيَّة من المدينة، وهو عام أربع وستين فيكون عُمْرُه حين تُوفي -إن صَحَّ ما ذكره البَلاذُرِيُّ من تاريخ مَوْلِده- سِتًّا وخمسين عامًا، -أو سبعًا- والله أعلم.
فهذا رجل قضى أربعة أخماس عمره بعد بلوغه مبلغ الرجال في ساحات الجهاد، ولم يسقط السيف من يده في السنوات الباقية من عمره إلا مضطرًا ومكرهًا، وهو أعظم من حاصر القسطنطينية من القادة العرب المسلمين.
ومن النماذج الفريدة أيضا موسى بن نصير، فاتح المغرب وصقلية وقبرص ورودس والأندلس، هو شيخ المجاهدين الذي قضى أعوامًا يرفع فيها راية الجهاد. نشأة موسى بن نصير في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووُلِدَ موسى بن نصير سنة 19ه كان قائدا عسكريا في عصر الدولة الأموية. شارك موسى في غزو قبرص في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان، ثم أصبح واليًا على إفريقية من قبل الخليفة الوليد بن عبد الملك، واستطاع ببراعة عسكرية أن ينهي نزعات البربر المتوالية للخروج على حكم الأمويين، كما أمر بغزو شبه الجزيرة الأيبيرية، وهو الغزو الذي أسقط حكم مملكة القوط في هسبانيا. قال عنه ابن خلكان: «كان عاقلا كريمًا شجاعًا ورعًا تقيًّا لله تعالى، لم يُهزم له جيشٌ قطُّ.
ومن هذه النماذج الطيبة أيضا طارق بن زياد
وُلِدَ طارق بن زياد في عام 50 هـ في خنشلة في الجزائر في قبيلة نفزة؛ وهي قبيلة بربرية، وهكذا فإن هذا البطل العظيم لم يكن من أصل عربي، ولكنه من أهالي البربر الذين يسكنون بلاد المغرب العربي، وقد نشأ طارق بن زياد محبا للعلم، فتعلَّم القراءة والكتابة، وحفظ سورًا من القرآن الكريم وبعضًا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-.
طارق بن زياد قائد عسكري مسلم، قاد الفتح الإسلامي لشبة الجزيرة الأيبيرية، خلال الفترة الممتدة بين عاميّ 711 و718م، بأمر من موسى بن نصير والي أفريقية في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. ويُنسب إلى طارق بن زياد إنهاء حكم القوط الغربيين لهسبانيا. وإليه أيضًا يُنسب “جبل طارق” وهو الموضع الذي وطأه جيشه في بداية فتحه للأندلس. وعلى يد “طارق بن زياد” قامت دولة للمسلمين في بلاد “الأندلس” المعروفة الآن بإسبانيا و”البرتغال”، ويُعتبرُ طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخين الأيبيري والإسلامي على حدٍ سواء، وتُعدّ سيرته العسكريَّة من أنجح السير التاريخيَّة، ترك طارق بن زياد إرثًا كبيرًا بعد وفاته تمثَّل ببقاء شبه الجزيرة الأيبيريَّة تحت حكم المسلمين ثمانية قرون، فيُعتبر طارق بن زياد أحد أشهر القادة العسكريين المُسلمين في التاريخ، ومن أهمهم على الإطلاق، وهو من أكثر الشخصيَّات الوطنيَّة إجلالًا في المغرب العربي، في كلٍ من الجزائر والمغرب بشكلٍ خاص، وعند العرب والأمازيغ على حدٍ سواء، وقد سُمِّيت باسمه الكثير من المواقع تكريمًا له وتخليدًا لذكراه، في البلدان الإسلاميَّة وخارجها. أمَّا وفاته فكانت على الأرجح سنة 102 هـ.
ونستكمل في اللقاء القادم بمشيئة الله تعالى.