مقالات متنوعة

رسائل البريد العاجل إلى الشباب الحائر (9)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وبعد:

فنعيش اليوم مع شاب أقام دولة بعد موتها، أحيا تاريخ دولة بعد اندثارها، إنه عبد الرحمن الداخل، صقر قريش.

هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، ولد سنة 113 هـ في خلافة جده هشام بن عبد الملك، في بلاد الشام، توفي أبوه شابا عام 118 هـ في خلافة أبيه هشام بن عبد الملك، فنشأ عبد الرحمن في بيت الخلافة الأموي بدمشق حيث كفله وإخوته جده هشام. وكان جده يؤثره على بقية إخوته ويتعهده بالصلات والعطايا في كل شهر حتى وفاته. وكان الفاتح الكبير مسلمة بن عبد الملك عم أبيه يرى أن عبد الرحمن أهلا للولاية والحكم وموضعًا للنجابة والذكاء، وسمع عبد الرحمن ذلك منه مشافهة، مما أثّر في نفسه أثرًا إيجابيا، ظهرت ثماره فيما بعد، وعندما أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الأموية، هدفوا إلى تعقب الأمويين والقضاء عليهم خشية أن يحاولوا استرداد ملكهم، فقتلوا بعضهم مما جعل الباقين منهم يستترون. حينئذ أظهر العباسيون الندم على ما كان منهم، وأشاعوا أنهم أمّنوا من بقي من الأمويين، حتى اجتمع منهم بضع وسبعون رجلا منهم أخ لعبد الرحمن يدعى يحيى، فأفنوهم وقتلوهم. وحين بلغ عبد الرحمن بن معاوية ذلك هرب من منزله حتى بلغ قرية على الفرات، اختبأ بها، ثم أصيب عبد الحمن بمرض في عينيه فلزم ظلمة داره، وفي يوم دخل عليه ابنه سليمان فزعًا باكيًا وهو ابن أربع سنين، وإذا برايات العباسيين في القرية، ودخل عليه أخ له صغير يخبره الخبر. فعمد عبد الرحمن إلى دنانير تناولها، ثم أعلم أختيه بمتوجهه، وفر هو وأخوه بعد أن وشى به عبد من عبيده، وهنا تعقبته فرسان العباسيين، فلم يجدا أمامهما مهربًا إلا عبور النهر. وإذ هما في نصف النهر، أغرتهما الشرطة أن يرجعا ولهما الأمان، فرجع أخوه خشية الغرق، فقتله العباسيون، وكان عمر أخيه ثلاث عشرة سنة، بينما نجح عبد الرحمن بالوصول إلى الضفة الأخرى، ثم ألحقت به أخته أم الأصبغ مولاه بدر ومولاها سالمًا بمال وشيء من الجواهر، فتوجه عبد الرحمن بالموليين صوب إفريقية، وكان عمره آنذاك تسعة عشر عاما، وكان عبد الرحمن يفكر في إعادة ملك بني أمية، وفي عام 136 هـ، أرسل مولاه بدرًا إلى موالي بني أمية في الأندلس يطلب عونهم ومساعدتهم والتمهيد لدخوله الأندلس. فعرض بدر رسالة عبد الرحمن على أبي عثمان عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وأبي الحجاج يوسف بن بخت؛ زعماء موالي بني أمية في الأندلس، فأجابوه. وعرضوا الأمر على الصميل بن حاتم وكان من زعماء المضرية، غير أن الصميل خشي علي نفوذه من مجيء عبد الرحمن، وقال مقالته الشهيرة “إني رويت في الأمر الذي أدرته معكما، فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله”. فاستقر على ألا يجيبه.

كان الأندلس حينئذ يغلي بسبب النزاعات المتواصلة بين القبائل المضرية واليمانية، فوافقت دعوة عبد الرحمن رغبة اليمانية المدفوعين بالرغبة في الثأر لهزيمتهم أمام الفهرية والقيسية في موقعة “شقندة”، فاحتشدوا لنصرة عبد الرحمن. ثم أرسل زعماء الموالي مركبًا يعبر به إلى الأندلس، فوصل إلى ثغر المنكب في ربيع الثاني سنة 138 هـ، وبعد أن دخل عبد الرحمن الأندلس أتاه أبو عثمان وعبد الله بن خالد، وسارا به إلى حصن طرش منزل أبي عثمان التي أصبحت مركزًا لتجمع أنصاره. وبلغ الخبر يوسف الفهري بوصول عبد الرحمن وتجمع الناس حوله، وعدم قدرة عامله على “إلبيرة” على تفريقهم فنصح الصميل يوسف بوجوب التوجه فورًا لملاقاة عبد الرحمن، فجمع يوسف جيشه، وعلم عبد الرحمن بمسير جيش يوسف، فتحرك بجيشه وأخضع كافة المدن في طريقه حتى إشبيلية التي استولى عليها وبايعه أهلها، فتجمع له ثلاثة آلاف مقاتل ثم حاول مباغتة يوسف الفهري، ومهاجمة قرطبة ليستولي عليها، والتقيا في موضع يبعد عن قرطبة نحو 45 ميلا لا يفصلهما إلا النهر. حاول يوسف أن يغري عبد الرحمن لينصرف بجنده، بأن وعده بالمال وبأن يزوجه من إحدى بناته. إلا أن عبد الرحمن رفض، وفي الليل، حاول عبد الرحمن أن يسبق بجنده جيش يوسف خلسة إلى قرطبة. علم بذاك يوسف فسار الجيشان بمحاذاة النهر صوب قرطبة، إلى أن انحسر الماء عند المصارة يوم الأضحى العاشر من ذي الحجة لعام 138 هـ، فعبر جيش عبد الرحمن ودارت المعركة التي انتهت بنصر عبد الرحمن، وخلال المعركة أشيع بين الجنود أن عبد الرحمن يركب جوادًا سريعًا للفرار به وقت الهزيمة. فلما بلغ عبد الرحمن هذا الكلام ترك فرسه في الحال وقال: “إن فرسي قلق لا يتمكن معه الرمي”، ثم ركب بغلا ضعيفًا كي يقنع جنوده بأنه لن يولي ظهره للأعداء، ثم قال عبد الرحمن لأصحابه: “أي يوم هذا؟ قالوا: الخميس يوم عرفة، فقال: فالأضحى غدا يوم الجمعة، وهو يوم فأل طيب، فيه سيقت الخلافة لعائلتي، والمتزاحفان أموي وفهري، والجندان قيس ويمن، قد تقابل الأشكال جدا، وأرجو أنه أخو يوم “مرج راهط”، فأبشروا وجدوا”.

ودارت معركة قوية، انتصر فيها عبد الرحمن بن معاوية، وفَرَّ يوسف الفهري ودخل عبد الرحمن إلى قرطبة، وأدى الصلاة في مسجدها الجامع حيث بايعه أهلها على الطاعة، وكانت عادة المحاربين أن يَتَّبع الجيشُ المنتصرُ فلول المنهزمين والفارِّين؛ ليقتلهم ويقضي عليهم؛ ومن ثَمَّ يقضي على ثورتهم، وحين بدأ اليمنيون يُجَهِّزون أنفسَهم ليَتَتَبَّعوا جيش يوسف الفهري منعهم عبد الرحمن بن معاوية، وقال لهم قولةً ظلَّت تتردَّدُ في أصداء التاريخ، أمارةً على علمه ونبوغه، وفهمٍ صحيح، وفكرٍ صائب في تقدير الأمور؛ قال لهم: «لا تستأصلوا شأفةَ أعداءٍ ترجون صداقتهم، واستبقوهم لأشدّ عداوة منهم».

وهكذا استطاع صقر قريش أن يقيم دولة للأمويين في الأندلس، وقد تعرض عبد الرحمن لثورات كثيرة في الأندلس تزيد على خمس وعشرين ثورة، تغلّب عليها جميعها، وكان موقف عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل صارمًا مع الثوار؛ وذلك لقمع الانقلابات المتكررة والتي تُضعف من جانب الأمن والاستقرار في البلاد.

وحين استتبَّ الأمر لعبد الرحمن الداخل في أرض الأندلس، وبعد أن انتهى نسبيًّا من أمر الثورات بدأ يُفَكِّر في الإصلاحات. فكان أن اهتمَّ بالأمور الداخلية للبلاد اهتمامًا كبيرًا؛ فقام بإنشاء جيش قوي وإنشاء المصانع ودور الأسلحة، وأنشأ أيضًا أسطولاً بحريًّا قويًّا، بالإضافة إلى إنشاء أكثر من ميناء؛ كان منها ميناء طُرْطُوشة وألمَرِيَّة وإِشْبِيلِيَة وبَرْشُلُونَة وغيرها من الموانئ. وأعطى عبد الرحمن الداخل العلم والجانب الديني المكانة اللائقة بهما ونَشْر العلم ووقر العلماء. واهتمَّ بالقضاء والحسبة وكان من أعظم أعماله في الناحية الدينية: بناء مسجد قُرْطُبَة الكبير، والذي أنفق على بنائه ثمانين ألفًا من الدنانير الذهبية، وقد تنافس الخلفاء من بعده على زيادة حجمه؛ حتى تعاقب على اكتماله في شكله الأخير ثمانية من خلفاء بني أميَّة.

كان عبد الرحمن راجح الحلم، راسخ العلم، ثاقب الفهم، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعَة، ولا يَكِلُ الأمور إلى غيره، شجاعًا مقدامًا. وكان قد أُعْطِيَ هيبة من وَلِيِّه وعدوِّه وكان يتبسَّط مع الرعية، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم، ويُصَلِّي بهم ومعهم، ومع كونه شديد الحذر قليل الطمأنينة، لم يمنعه ذلك من معاملة الناس والاختلاط بهم دون حرَّاس.

شخصية تُشخِص الأبصار وتَبْهَر العقول، فمع رجاحة عقله وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه رحمه الله، ومع شدَّته وحزمه وجهاده وقوَّته كان رحمه الله شاعرًا محسنًا رقيقًا ،ومع المدَّة الكبيرة التي حكمها القائد عبد الرحمن الداخل، ومع امتداد عمره، وموقعه القيادي في أي مكان ينزل فيه، مع هذا كله؛ لم يُؤْثَر عنه أيُّ خلق ذميم أو فاحش، بل مدحه العلماء بالعلم والفضل وحُسن الخلق؛ مما يدلُّ على إنسانيته السامية، وكان عبد الرحمن الداخل خطيبًا مفوَّهًا يرتقي المنابر ويعظ الناس، فهو كما نعرف نشأ في بيت الإمارة، وهكذا الأمراء في ذلك العصر، وقد عرف بلقب «صقر قريش»، ذلك أنه جلس أبو جعفر المنصور يومًا في أصحابه، فسألهم: «أتدرون من هو صقر قريش؟»، فقالوا له: «أمير المؤمنين الذي راض الملك، وسكّن الزلازل، وحسم الأدواء، وأباد الأعداء». قال: «ما صنعتم شيئًا»، قالوا: «فمعاوية»، قال: «ولا هذا»، قالوا: «فعبد الملك بن مروان»، قال: «لا». قالوا: «فمن يا أمير المؤمنين؟»، قال: «عبد الرحمن بن معاوية الذي تخلّص بكيده عن سنن الأسنة، وظُبات السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدًا أعجميًا، فمصّر الأمصار، وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره، وشدة عزمه.

قال عنه الذهبي: كان شجاعًا شهمًا محمود السيرة، لم يزل يستأصل المتغلِّبين حتى تم أمره بالأندلس، واجتمع في دولته من العلماء والفضلاء ما لم يجتمع في دولة غيره، وله غزوات عظيمة ووقائع مشهورة، تمتَّع عبد الرحمن الداخل بفكر عسكري في غاية الدقَّة والعجب؛ فحياته كُلُّها -تقريبًا- حروب ومناوشات منذ سقوط خلافة بني أمية وحتى وفاته، مرورًا بفراره عبر البلاد والصحاري والقفار والبحار، وانتهاءً بالثورات الكثيرة التي تغلَّب عليها بلا استثناء؛ ليُوَطِّد مُلكه في بلاد الأندلس دون منازع. عاش عبد الرحمن الداخل تسعًا وخمسين سنة؛ منها تسع عشرة سنة في دمشق والعراق قبل سقوط دولة الأمويين، وستُّ سنوات فرارًا من بني العباس وتخطيطًا لدخول الأندلس، وأربع وثلاثون سنة في المُلك ببلاد الأندلس.

تُوُفِّي بقُرْطُبَة ودُفِنَ بها في جُمادى الأولى وقيل في ربيع الآخر، وقيل في رمضان 172هـ. وترك من الولد أحد عشر ولدًا وقد دفن في قصر قرطبة بعد أن صلى عليه ولده عبد الله، وخلفه من بعده ولده هشام الملقب بهشام الرضا بعهد من والده، فرحمه الله رحمة واسعة.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى