وقفة حول اللقاء الأخير بين إبراهيم عليه السلام وأبيه آزر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد:
فقد روى البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني ألَّا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقال: يا إبراهيم، ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار)).
هذا الحديث يحتاج إلى كثير من التأمُّل والتدبُّر، مشهد مهيب من مشاهد يوم القيامة، هذا المشهد يُجسِّد لنا الواقع الحقيقي ليوم القيامة، فهذا لقاء أخير بين إبراهيم وأبيه أزر، وهو حوار أخير بين إبراهيم وأبيه آزر، وهو رجاء أخير من آزر يتمنَّى قبوله، نعم هو مشهد عظيم، وحوار مؤلم بين الابن النبي الصالح، والوالد الكافر الذي أبى واستكبر، وقد جاء في الحديث ((وعلى وجه آزر قترة وغبرة))؛ أي: وعلى وجه آزر آثار الكرب والسواد والشدة، والكآبة والحزن، كما قال تعالى: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾ [عبس: 40، 41]، ثم يقول إبراهيم عليه السلام لأبيه آزر: ((ألم أقل لك لا تعصني))، وكان ذلك في الحياة الدنيا، كما قصَّ الله تعالى ذلك في سورة مريم، حاكيًا عن نصح إبراهيم لأبيه: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 41 – 46]، وهنا تأتي إجابة سريعة بلا تفكُّر ولا تردُّد ((فاليوم لا أعصيك))، وفي رواية يقول إبراهيم: ((قد نهيتك عن هذا فعصيتني))، فيقول أبوه: ((لكنني لا أعصيك واحدة))، سبحان الله العظيم! كلمة مفادها أن اليوم أعود، اليوم أرجع، اليوم أتوب، اليوم أسلم لله، اليوم أستسلم، كلمة تُجسِّد لنا حقيقة ما سيراه الإنسان في ذلك اليوم من الأهوال، وهي تُجسِّد لنا صورة الندم على ما فات في الدنيا، فالآن آزر مستعدٌّ للطاعة، الآن عرف الحقيقة وتبيَّنت له؛ ولكن كما قال الله تعالى لفرعون: ﴿ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [يونس: 91]، نعم لقد فاتت الفرصة، ولا ينفع اليوم الندم كما لا تنفع الطاعة.
((اليوم لا أعصيك))، والله إنها لكلمة ترجف القلوب، نحن بحاجة ماسة إلى تدبُّر هذه الكلمة وتدبُّر معناها، وما تحتويه من بعض الرسائل العاجلة إلى كل مسلم، فيتوجَّه إبراهيم إلى ربِّه، ويقول: ((يا رب، إنك وعدتني ألَّا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟))، ويتوجَّهإبراهيم عليه السلام إلى الله تعالى، وقد أدركته الرأفة بأبيه رغم تبرُّئِه منه في الحياة الدنيا، فهو أبوه الذي ربَّاه ورعاه في صغره حتى كانت العداوة والخلاف بسبب العقيدة، ويأتي الجواب من الله ((إني حرَّمْتُ الجنة على الكافرين)).
وذلك اليوم الذي سمَّاه الله يوم الحسرة، لم سمي يوم الحسرة؟ لما يتحسَّر فيه الناس ويندمون على ما فرَّطُوا في هذه الدنيا، فإذا رأوا جهنم تذكَّروا الدنيا، وتذكَّروا الملذَّات، والناس إذا رأوا جهنم جثوا على الركب، وأيقن المجرمون أنهم واقعوها، وأفصحت جهنم عن الغضب، وهنالك يقول كل واحد من الناس: نفسي نفسي، وقد جاء عند المفسرين أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة، فتقول: يا بني، ألم يكن حجري لك وطاء، ألم يكن ثديي لك سقاء، ألم يكن بطني لك وعاء؟ فيقول: بلى يا أمه، فتقول: يا بني، فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبًا واحدًا! فيقول: إليك عنِّي يا أمه! فإني بذنبي عنك اليوم مشغول،وروي عن عكرمة أنه قال: بلغني أن اليهودي والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة، فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدًا، ألم أكن قد أحسنت إليك؟ فيقول: بلى، فيقول: انفعني، فلا يزال المسلم يسأل الله تعالى حتى ينقص من عذابه، وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة، فيقول: ألم أكن بك بارًّا، وعليك مشفقًا، وإليك محسنًا، وأنت ترى ما أنا فيه، فهب لي حسنةً من حسناتك، أو احمل عني سيئةً، فيقول: إن الذي سألتني يسيرٌ؛ ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك، فيرد عليه نحوًا من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن أحسن العشرة لك، فاحملي عني خطيئةً، لعلِّي أنجو، فتقول: إن ذلك ليسيرٌ؛ ولكني أخاف مما تخاف منه، ثم تلا عكرمة: ﴿ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [فاطر: 18]، كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 33 – 37]، وهكذا يا عباد الله ينتهي اللقاء الأخير بدخول آزر نار جهنم، والعياذ بالله.