مقاصد المكلفين (23)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف حول مقاصد المُكلَّفين وأمر النية والإخلاص، وقد استعرضا في مقالنا السابق بعض علامات القائم بالإخلاص، وأحوال السلف في هذا الأمر، وفي هذا المقال نلقي الضوء على مسألة جديدة، وهي: حكم التعبد بقصد الاطلاع على العوالَم المغيبة.
قال الدكتور عمر الأشقر -رحمه الله-: “إذا قصد المتعبِّد بالعبادة تجريد النفس بالعمل، والاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة وخوارق العادات، ونيل الكرامات، والاطلاع على غرائب العلوم، والعوالم الروحانية، وما أشبه ذلك؛ فإنه ممَّا ينافي الإخلاص، ويشوب صفاءه؛ لأن العابد على هذا النحو جعل العبادة وسيلة، لأمورٍ لم تقرها الشريعة الِإسلامية، علمًا بأن هذا النوع مِن المقاصد لا يقوي قصد التعبد والإخلاص، بل يضعفه؛ لأن العابد بمثل هذا القصد إذا لم يحصل له مراده ضعف عن العمل، ورمى بالعبادة، وربما كذَّب بنتائج الأعمال التي وعد الله بها عباده المخلصين” (مقاصد المكلفين).
وأما ما يُروى: “أن مَن زهِد في الدُّنيا أربعين صباحًا فأخلص فيها العبادةَ أخرج اللهُ على لسانِه ينابيعَ الحكمةِ من قلبِه”؛ فهو لا يصح بأي وجهٍ مِن الوجوه، لا سندًا ولا متنًا؛ ولذا لما سَمِع أحد الناس هذا الأثر فقام بتطبيقه لينال الحكمة، فلم يفتح له بابها، فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال: “هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله!”.
ومما يدل على عدم جواز مثل هذا النوع مِن المقاص: أنَّ الشارع لم يرد عنه شيء يجيز مثل هذا النوع من المقاصد، بل جاء عنه ما يدلُّ على خلاف ذلك، بل عدَّ كثيرٌ من العلماء هذا القصد نوعًا من الشرك يُفسد الإخلاص، وقد أمر الله -تعالى- الناس بأن ينظروا في مَلَكوتِ السمَوَاتِ وَاْلَأرْض، لا أن ينتظروا بعض الغيبيات، كما قال -تعالى-: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ . وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (ق:6-7)، وقال -تعالى-: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:17-20)، والآيات حول هذا المعنى كثيرة جدًّا.
فإن قال قائل: إن هذا مِن طلب الولاية، وهو أمر جائز؛ وقد جاء في كتاب الله: (وَاجْعَلنا لِلْمتقينَ إمَامًا) (الفرقان:74)، فكون العبد يريد أن يكون وليًّا لله -تعالى- مِن خواص عباده الصالحين الذين اصطفاهم واختارهم؛ لا حرج فيه.
قلنا: إنَّ طلب الولاية الصالحة بيَّن الله طريقها، وإنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، كما قال -تعالى-: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (62-63). وفي الحديث القدسي: (مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ) (رواه البخاري)، ثم بيَّن طريق نيل الولاية: (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ) ونصوص الوحيين كثيرة حول هذا المعنى.
وإن قيل: إن هذا نوع مِن المعرفة والعِلْم، والعلم مطلوب بلا شك، قال -تعالى- آمرُا رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه:114)، وقد طلب مثل هذا إبراهيم -عليه السلام- من الله -عز وجل-: (رَبّ أَرِنِي كيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى) (البقرة:260).
قلنا: إن العِلْم الذي نحتاج إليه مُسطَّر في كتاب الله، وفي نصوص أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- وطلبه يكون مِن هذين المصدرين، أمَّا طلب هذه الأمور؛ فليس مِن العِلْم الذي نحتاج إليه في أعمالنا، وأما ما جاء عن إبراهيم فهو مِن باب الدعاء، ولم يقصد التعبُّد مِن أجل هذا الأمر.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.