مقاصد المكلفين (24)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد استعرضنا في مقالنا السابق مسألة: حكم التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، ونُسلِّط الضوء في هذا المقال على مسألة الهروب من العبادة بالحيل، وهذه المسألة من المسائل المهمة التي تعرض لها الدكتور الأشقر في كتابه: “مقاصد المكلفين”.
فبعض الناس يتوجَّه قصده ونيته إلى الهروب من العبادة بنوعٍ من أنواع الخداع والتحايل، بحيث يكون عمله في ظاهر الأمر مشروعًا لا مؤاخذة عليه، وهو يقصد في باطنه التهرب من العبادة وإسقاطها تكاسلًا عن الفعل، وضنًّا بالجهد والمال، وطلبًا للراحة، واتباعًا للهوى.
ومن الأمثلة على ذلك:
مَن أظله شهر رمضان فيتعمد أن يُحدث سفرًا ليسقط عنه الصيام، وكمن أراد الجماع في نهار رمضان، فيأكل أولًا، ثم يجامع كي يسقط عنه الكفارة، وكمَن أراد التهرب من الزكاة فيجمع متفرقه، أو يفريق مجتمعه حتى لا يصل إلى النصاب، أو يهب أحدًا قدرًا من المال حتى لا يصل إلى النصاب، أو ينفق مبلغًا من المال قبل نهاية الحول حتى لا يمر الحول على نصاب كامل، ولا شك أن كل هذا من المقاصد الخبيثة، حيث إن العبادات الواجبة هي حق لله -تعالى-، لا يجوز للعبد أن يتسبب في إسقاطها بحالٍ من الأحوال، وهذا التحايل محرم، وقد ذمَّ الله فاعله، وقد جاءت النصوص بلعن أمثالهم ممَّن استخدموا الحيل، وتوعد الله من فعل مثل هذا بالعقوبة الدنيوية والأخروية.
فمِن ذلك: لعن الله اليهود الذين اعتدوا في السبت بالصيد فيه بنوع من أنواع التحايل، وقد ذكرهم الله في أكثر من سورة، ففي سورة النساء قال: (أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاَ) (النساء: 47)(1)، وفي سورة البقرة قال: (وَلَقَدْ عَلِمْتمُ الِّذِينَ أعْتَدَوْا منْكُمْ فِي السبت فَقلْنا لَهُمْ كونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (البقرة: 65)(2)، وفي سورة الأعراف أطال في شرح قصتهم فقال: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ . فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) (الأعراف:163-166)(3).
وقد ذكر ابن كثير وغيره من أئمة التفسير: “أنَّ أصحاب تلك المدينة احتالوا على الصيد في يوم السبت، بأن نصبوا الحبال والشباك، وحفروا الحفر التي يجرى معها الماء إلى مصانع قد أعدوها، إذا دخلها السمك لا يستطيع أن يخرج منها، فعلوا ذلك في يوم الجمعة، فإذا جاءت الحيتان مسترسلة في يوم السبت علقت بهذه المصايد، فإذا خرج سبتهم أخذوها فغضب الله عليهم، ولعنهم، لما احتالوا على خلاف أمره، وانتهكوا محارمه بالحيل التي هي ظاهرة للناظر”.
وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمِعْتُ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- عامَ الفَتحِ، وهو بمكَّةَ يقولُ: (إنَّ اللهَ ورسولَه حرَّمَ بَيعَ الخَمرِ والمَيتةِ والخِنزيرِ)، فقيلَ: يا رسولَ اللهِ، أرأَيْتَ شُحومَ المَيتةِ؟ فإنَّه يُدهَنُ بها السُّفنُ، ويُدهَنُ بها الجُلودُ، ويَستصبِحُ بها النَّاسُ؟ فقال: (لا، هِيَ حَرَامٌ)، ثُمَّ قال: (قاتَلَ اللهُ اليهودَ؛ إنَّ اللهَ لمَّا حرَّمَ عليهم الشُّحومَ جَمَلوها، ثُمَّ باعوها، وأكَلُوا أَثمانَها) (متفق عليه)، وقد احتجَّ البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه بأحاديث كثيرة على إبطال الحيل، منها: حديث عمر بن الخطاب أنّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (متفق عليه).
وهذا الحديث قال فيه القرافي: “فيه حجة لمالك ومَن وافقه في إسقاط الحيل، كمَن باع ماله قبل الحول فرارًا من وجوب الزكاة، وإنما يخادع بالنيات مَن لا يطلع عليها، وقد نقل النسفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس مِن أخلاق المسلمين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق”، ومن الأحاديث التي أوردها البخاري محتجًا بها على إبطال الحيل: حديث أنس أن أبا بكر كتب له فريضة الزكاة التي فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة”(1).
ولذا فإن الضابط في هذا الأمر هو أن ينظر العبد في مقاصد الشارع، ويجعل المكلف قصده محكومًا بمقاصد الشارع، فالمقاصد الموافقة لقصد الشارع مقاصد صحيحة، والمقاصد المخالفة لمقاصد الشارع من التكالف غير صحيحة.
والله المستعان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كأن يكون لكل منهما أربعون شاة، فإذا ضم مالهما صار ثمانين، فالواجب فيهما شاة واحدة عليهما، بخلاف ما إذا لم يكونا شريكين، فيكون على كلٍّ منهما شاة، فنهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحتال الرجلان فيشتركا تهربًا من الصدقة وتخفيفًا لها.