“القدس” إسلامية من البداية للنهاية (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
القدس في التاريخ الإسلامي:
ونعني بالتاريخ الإسلامي، أي: منذ بعثة النبي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-، وقد ذكرنا آنفًا أن القدس تعرضت للاحتلال من الرومان.
وهنا فكَّر النبي -عليه الصلاة والسلام- في أن يسترد بيت المقدس بعد انعقاد القمة النبوية، وأعني بانعقاد القمة النبوية: اجتماع الرسل والأنبياء في مدينة القدس في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج، يوم أن صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- إمامًا بالأنبياء والمرسلين، وكأنه -عليه الصلاة والسلام- يتسلم منهم المسئولية لتحمل الأمانة في استرداد بيت المقدس ومدينة القدس إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، فهؤلاء الأنبياء الذي صلوا خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء والمعراج، فيهم إبراهيم أول مَن دخل المدينة وبنى المسجد الأقصى، وفيهم داود الذي قاتل وانتصر في المدينة، وفيهم سليمان الذي شيَّد المدينة المباركة، والذي شيد المسجد الأقصى.
فهذا الاجتماع كان لربط عقائد التوحيد من لدن إبراهيم إلى محمد -عليهما الصلاة والسلام-، وليتسلم النبي -عليه الصلاة والسلام- المسئولية تجاه مدينة القدس، ثم لإقامة الحجة على مشركي مكة، حيث وصف لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس؛ ولذا لم تكن في المسجد الحرام. والله أعلى وأعلم.
وبالفعل بدأ النبي -عليه الصلاة والسلام- يمهد الطريق الى استرداد المدينة المقدسة: ففي العام السابع من الهجرة كان هرقل ملك الروم في مدينة إلياء يحتفل بذكرى النصر على الفرس، فأرسل له رسول الله -صلى الله عليه وسلم رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وكأنه يقول له: “لن تدوم لكم”، ثم في العام الثامن كانت معركة “مؤتة” على حدود الشام، وقد أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثلاثة آلاف من المسلمين بقيادة زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، وهكذا يمهِّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الطريق ويقترب من فلسطين.
ثم كانت غزوة “تبوك” في العام التاسع الهجري بعد أن انتصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مشركي مكة وطهرها من الرجس والأوثان؛ فتحرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثين ألف مقاتل نحو الشمال للقاء الرومان في تبوك، ثم بعد عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع جهَّز جيشًا لغزو الروم بقيادة أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، وكان ذلك في العام الحادي عشر، وبعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتولي الصديق -رضي الله عنه- أمر الخلافة، أرسل جيش أسامة إلى البلقاء والداروم من أرض فلسطين، ثم في العام الثاني عشر أرسل أبو بكر الجيوش الإسلامية إلى الشام، وأرسل جيشًا بقيادة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى أرض فلسطين، ثم في العام الخامس عشر يحاصر المسلمون مدينة القدس بقيادة أبي عبيدة بن الجراح -رضي الله عنه-، ولما اشتد الحصار على الرومان وافقوا على تسليم المدينة للمسلمين، وبالفعل تحرك الفاروق عمر -رصي الله عنه- وتسلم مفاتيح بيت المقدس ودخل المسجد الأقصى المبارك، وكتب لأهل إلياء العهدة العمرية يؤمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم.
ثم في عصر الدولة الأموية: اهتم الأمويون بمدينة القدس، وقام عبد الملك بن مروان ببناء قبة الصخرة، وهي عبارة عن تحفة معمارية، وقد بدأ العمل في بنائها سنة 66هـ / 685م، وتم الفراغ منها سنة 72هـ / 691م. وقيل: إن الوليد بن عبد الملك هو مَن استكمل تشيدها.
وقد قام سليمان بن عبد الملك بتشييد مدينة الرملة بفلسطين في أواخر القرن الأول الهجري، عندما كان أميرًا لجند فلسطين في خلافة أخيه الوليد بن عبد الملك.
ثم جاء العصر العباسي واهتم بعض بني العباس كذلك بمدينة القدس، ولكن بعد أن تغيَّر المناخ وكثر الفساد، وانتشر الظلم في مرحلةٍ معينةٍ من مراحل الدولة العباسية، وقعت القدس في احتلال الدولة العبيدية الشيعية سنة عام 359هـ، وقد تعاون الشيعة مع غير المسلمين لإحتلال المدينة المقدسة، ثم لما وصلت الدولة العباسية إلى أضعف أحوالها، جاء الصليبيون مع وجود الدولة العبيدية، ووقعت القدس في أسر الصليبين عام (492 هـ /1099 م).
ويذكر ابن الأثير -رحمه الله-: أن الصليبيين اقتحموا أسوار القدس، ودخلوها وقتلوا معظم مَن فيها مِن السكان، حتى إنهم قتلوا في ساحة المسجد الأقصى أكثر من سبعين ألفًا!
ثم رفع الصليبيون الصليب على المسجد، ومنعوا صلاة الجماعة أكثر من تسعين سنة، ثم بدأت الأمة تعود إلى خالقها وتتمسك بدينها، فأكرم الله الأمة بمجموعة من العظماء المجاهدين: كعماد الدين زنكي، ونور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم، فتم القضاء على الدولة العبيدية الشيعية، وتوحدت مصر والشام تحت راية واحدة، ودخل صلاح الدين مدينة القدس بعد رحلة طويلة من الجهاد والكفاح، وانتصر على الصليبيين في معركة حطين عام 583هـ / 1187م، واسترد مدينة القدس والمسجد الأقصى مرة أخرى.
ومِن المؤرخين مَن ذكر: أن تحرير القدس ودخول صلاح الدين المسجد الأقصى كان في السابع والعشرين من شهر رجب، أي: ليلة ذكرى الإسراء والمعراج، أي: في مثل اليوم الذي اجتمع فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم بالأنبياء-، على قول مَن يقول: إن الإسراء والمعراج كان في السابع والعشرين من شهر رجب.
ومما سبق يتضح أن: توحيد مصر والشام له تأثير جيد على أحوال الأمة، وهو مؤشر قوي يدل على قوتها وشدة بأسها، ويتضح كذلك: أن القدس هي المؤشِّر المعبِّر عن حال الأمة، ويتضح كذلك أن القدس ميراث إسلامي خالص.
صفقة تسليم مدينة القدس في عصر السلطان الكامل:
وقد ظل المسلمون يسيطرون على مدينة القدس منذ أن حررها صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- حتى كان عصر السلطان الكامل بن العادل الأيوبي سلطان مصر، وهو الذي تعامل مع القدس وكأنها جوهرة ثمينة يهديها للأعداء حفاظًا على كرسيه وسلطانه، ولم يتعامل معها كمدينة مقدَّسة لها قدرها وقدسيتها، فلقد عرض على الصليبيين أن يسلمهم مدينة القدس، وذلك أثناء حصارهم لمدينة دمياط عام ( 616هـ / 1219م)، وذلك مقابل الجلاء عن مصر، وهذه الحملة هي ما تعرف بالحملة الصليبية الخامسة على مصر، وقد قدَّر الله -تعالى- أن يرفض الصليبييون هذا العرض حيث إنهم كانوا يطمعون في الاستيلاء على مصر، وظلُّوا في دمياط ثمانية عشر شهرًا كاملةً، حتى تمكَّن المصريون من الانتصار عليهم وطردهم من دمياط، وقد تعاون أبناء السلطان الملك العادل الثلاثة: الكامل محمد، والمعظم عيسى، والأشرف موسى، أثناء هذه الحملة مما كان له أثر بالغ في انتصار المسلمين على الحملة الصليبية، ثم بسبب الصراع على الكراسي والمناصب شبَّ صراع بين الكامل وأخيه السلطان المعظم عيسى صاحب دمشق، واستعان كلٌّ من الأخوين بقوى خارجيَّة لمؤازرته ومساندته في مواجهة الآخر؛ فاستنجد الملك المعظم بالسلطان جلال الدين بن خوارزم شاه سلطان الدولة الخوارزمية، في حين استعان السلطان الكامل بالإمبراطور فريدريك الثاني صاحب صقلية وإمبراطور الدولة الرومانية في غرب أوروبا.
وللأسف الشديد: كان الثمن الذي أعلنه السلطان الكامل للإمبراطور فريدريك هو تسليمه الجوهرة الثمينة (بيت المقدس، وجميع المدن التي فتحها صلاح الدين بالساحل الشامي)؛ كل ذلك من أجل مساعدته في حربه ضدَّ أخيه الملك المعظم، ويا له مِن ثمنٍ غالٍ في مقابل كرسي زائل وثمن بخس!
ثم قدَّر الله -تعالى- أن مات الملك المعظَّم عيسى، وبهذا زال سبب الصراع بين الأخوين، وعندما وصل الإمبراطور فريدريك إلى عكا لمساندة الكامل، عَلِم بوفاة الملك المعظم عيسى الذي كان يعمل على التوسُّع على حساب إخوته، وقد انتهى الصراع بين الأخوين بوفاة أحدهما، وقد اقتسم الأخوان الكامل محمد والأشرف موسى ممتلكات أخيهما المعظَّم عيسى، وعادت الأمور في البيت الأيوبي إلى الهدوء والاستقرار، فأرسل فريدريك وفدًا محمَّلًا بالهدايا إلى السلطان الكامل.
وقد طلب الوفد من الكامل الوفاء بما تعهَّد به للإمبراطور، وتسليم بيت المقدس له، وهنا رفض السلطان الكامل هذا الطلب حيث تغيرت الأحوال بوفاة المعظم عيسى، وهنا لجأ الإمبراطور إلى أسلوب التذلل والانكسار، والخضوع والاستعطاف، حيث خاطب فريدريك الكامل بكلمات احتوت على التعظيم، فأثرت تلك الكلمات المزيفة في السلطان الكامل وألهبت مشاعره، ورق قلبه لها، وقد نجح الإمبراطور في خداعه، واتَّفق الفريقان على عقد اتفاقيَّة يافا في ربيع الأول (626هـ – 1229م)، وبمقتضاها تقرَّر الصلح بين الطرفين لمدَّة عشر سنوات، على أن يأخذ الصليبيون بيت المقدس، وبيت لحم، والناصرة، وصيدا، وتبنين، وهونين، ونصَّت المعاهدة على أن تبقى مدينة القدس على ما هي عليه، فلا يُجدِّد سورها، وأن يظل الحرم بما يضمُّه من المسجد الأقصى وقبة الصخرة بأيدي المسلمين، تُقام فيه الشعائر والصلوات، ولا يدخله الصليبيُّون إلا للزيارة فقط، وبعد عقد الصلح توجه فريدريك إلى بيت المقدس، فدخل المدينة المقدَّسة في (19 ربيع الآخر 626هـ /17 من مارس 1229م).
وفي اليوم التالي دخل كنيسة القيامة ليُتوَّج مَلِكًا على بيت المقدس، ويصف المقريزي ما حلَّ بالمسلمين من ألمٍ وغمٍّ بقوله: “فاشتدَّ البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمَّة والمؤذِّنون من القدس إلى مخيَّم الكامل، وأذَّنوا على بابه في غير وقت الأذان، واشتدَّ الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار!”.
وهكذا سيطر الصليبيُّون على بيت المقدس بلا حرب ولا سلاح، وقد ذكر صاحب كتاب: “مفرج الكروب في أخبار بني أيوب” ما نصه: “ورأى الملك الكامل أنه إن شاقق الإمبراطور ولم يفِ له بالكلية، أن يفتح له باب محاربة مع الفرنج، ويتسع الخرق ويفوت عليه كل ما خرج بسببه؛ فرأى أن يرضي الفرنج بمدينة القدس خرابًا ويهادنهم مدة، ثم هو قادر على انتزاع ذلك منهم متى شاء”.
وظلَّ بيت المقدس أسيرًا في أيدي الصليبيين حتى استرده الملك الناصر داود ابن أخي الكامل عام 637هـ، ولكنه سَلَّم المدينة مرة أخرى عام 641هـ!
وتشير بعض المصادر التاريخية أنه شاركه في التسليم الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والملك المنصور صاحب حمص حيث تحالفوا مع الفرنج ضد الصالح أيوب صاحب مصر، وهكذا جاء أقزام من البيت الأيوبي، فتنازعوا وصاروا فِرَقًا وأحزابًا.
ثم نجح الخوارزميُّون في تحريره في عهد السلطان المجاهد الملك الصالح نجم الدين أيوب في شهر صفر (642هـ/ 1244م)، وهكذا التاريخ يتكرر في واقعنا.
ثم جاء عام (656 هـ / 1258م)، وهو عام انهيار الدولة العباسية وسقوطها على يد التتار، وقد احتل التتار بلاد الشام بالكامل، وهنا قيَّض الله -تبارك وتعالى- بيبرس وقطز ودولة المماليك التي استردت مدينة القدس بعد سنتين فقط، وكان ذلك في موقعة عين جالوت عام (658 هـ / 1260م)، وهكذا دخل المسلمون في عين جالوت، وفي غيرها من المعارك، واسترد المسلمون مرة أخرى المدينة المقدسة.
ثم تأتي بعد ذلك الدولة العثمانية، ويحاول اليهود بشتى الطرق والأساليب أن يأخذوا قطعة أرض من الأرض المقدسة، وكانت هناك محاولات مستميتة من أجل هذا الهدف خلال العصر العثماني إلى أن جاء المبعوث اليهودي هرتزل إلى السلطان عبد الحميد الثاني، وقد حاول هرتزل استغلال حالة التردي الاقتصادي التي تعاني منها الدولة، وعرض على السلطان أية مبالغ يطلبها، وذلك مقابل فتح باب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين، وكان هرتزل يعلم مدى الضائقة المالية التي تمرُّ بها الدولة العثمانية؛ لذلك حاول إغراء السلطان بحل مشاكل السلطنة المالية مقابل تنفيذ مطالب اليهود، ولكنَّ السلطان ما وهن وما ضعف، وما استكان أمام الإغراء حينًا، والوعد والوعيد حينًا آخر؛ حتى أدرك اليهود في النهاية أنه ما دام السلطان عبد الحميد على عرش السلطنة، فإن حلمهم بإنشاء وطن قومي لهم سيظل بعيد المنال.
ويَشهد لذلك ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون، وما جاء في مذكّرات هرتزل نفسه الذي يقول بمناسبة حديثه عن مقابلته للسلطان: “ونصحني السلطان عبد الحميد بأن لا أتخذَ أية خطوة أخرى في هذا السبيل، لأنه لا يستطيع أن يتخلى عن شبرٍ واحدٍ من أرض فلسطين؛ إذ هي ليست ملكًا له، بل لأمته الإسلامية التي قاتلت من أجلها، وروت التربة بدماء أبنائها، كما نصحني بأن يحتفظ اليهود بملايينهم، وقال: إذا تجزأت إمبراطوريتي يومًا ما، فإنكم قد تأخذونها بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ فإنَّ عمل المِبْضَعِ في بدني لأهون عليَّ مِن أن أرى فلسطين قد بترت من إمبراطوريتي، وهذا أمر لا يكون”.
ولكن للأسف الشديد: استطاع اليهود بعد ذلك أن يسيطروا على الأرض المقدسة، وتم عزل السلطان عبد الحميد سنة (1909م)، ثم سيطر اليهود على القدس الغربية سنة (1947م) ثم في عام (1967م) سيطر اليهود على القدس الشرقية، ثم في (1979م) أعلن مناحم بيجن أن القدس بشطريها: الشرقي والغربي عاصمةً أبديةً لإسرائيل! وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولكننا على يقين بأن القدس ستعود مرة أخرى، وسيُمهد لها الطريق كما مهده النبي محمدٌّ -صلى الله عليه وآله وسلم-.
القدس إسلامية وستعود إلى المسلمين:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : (تُقَاتِلُكُمُ اليَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَقُولُ الحَجَرُ يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ) (رواه البخاري).
وقد قال دافيد بن غوريون -أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني-: “لا معني لإسرائيل من غير القدس، ولا معني للقدس من غير الهيكل!”.
ونحن نقول لليهود: “لا معنى لفلسطين بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الأقصى”.
وسيتحقق وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا محالة.