د. زين العابدين كامل: حول شخصية عبد الملك بن مروان
حول شخصية عبد الملك بن مروان
هو: عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي، وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية، وُلِد سنة 26 هـ في خلافة عثمان، شهد يوم الدار – حصار عثمان- وعمره عشر سنوات، وكان أميرًا على أهل المدينة وله ست عشرة سنة، ولاه إياها معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان يجالس الفقهاء والعلماء والعباد والصلحاء. وقد تولى عبد الملك أمر الحكم والسلطان من عام 65هـ وحتى عام 86هـ.
روى عبد الملك بن مروان الحديث عن أبيه، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وابن عمر، ومعاوية، ويزيد بن معاوية، وأم سلمة، وبريرة مولاة عائشة رضي الله عنهم أجمعين، وروى عنه جماعة منهم: خالد بن معدان، وعروة بن الزبير، والزهري، وعمرو بن الحارث، ورجاء بن حيوة، وجرير بن عثمان وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وربيعة بن يزيد، ويونس بن ميسرة، وابنه محمد بن عبد الملك رحمهم الله تعالى.
وروى ابن سعد بسنده أن معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يوم ومعه عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فمر بهما عبد الملك بن مروان، فقال معاوية: ما آدَبَ هذا الفتى وأحسن مُرُوَّتَهُ؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع، وترك خصالًا ثلاث: “أَخَذَ بِحُسْنِ الْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ، وَحُسْنِ الاسْتِمَاعِ إِذَا حُدِّثَ، وَحُسْنِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ، وَخِفَّةِ الْمئُونَةِ إِذَا خُولِفَ. وَتَرَكَ مِنَ الْقَوْلِ مَا يَعْتَذِرُ مِنْه، وَتَرَكَ مُخَالَطَةَ اللِّئَامِ مِنَ النَّاسِ، وَتَرَكَ مُمَازَحَةَ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِعَقْلِهِ وَلاَ مُرُوَّتِه” [الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 224)].
وقال عنه البخاري: كان عبد الملك بن مروان قد جالس العلماء والفقهاء وحفظ عنهم، وكان قليل الحديث، فمِن حديثه: ما رواه ابن عساكر في تاريخه بسنده: أن عبد الملك بن مروان قال: “كنتُ أجالس بريرة مولاة عائشة بالمدينة قبل أن أَلِيَ هذا الأمر، فكانت تقول: يا عبد الملك إني لأرى فيك خصالًا، لخليق أن تلي أمر هذه الأمة، فإن وُلِيت فاحذر الدماء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الرَّجُلَ يُدْفَعُ عَنْ بَابِ الْجَنَّةِ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ بِمِلْءِ مِحْجَمَةٍ مِنْ دَمٍ يُهْرِيقُهُ مِنْ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» [تاريخ دمشق لابن عساكر (37/ 112)].
وعن الشعبي، قال: “ما جالستُ أحدًا إلا وجدتُ لي الفضل عليه إلا عَبد المَلِك بن مروان، فإني ما ذاكرته حديثًا إلا زادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه!” [البداية والنهاية (12/ 380)].
وقال الأصمعي: “قيل لعبد الملك: عجَّل بك الشيب. قال: وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كلِّ جمعة” [سير أعلام النبلاء: (5/ 141)].
وقد اُشتهر عبد الملك بن مروان بالعلم والفقه والعبادة، فقد كان أحد فقهاء المدينة الأربعة، قال الأعمش عن أبي الزناد: “كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان”، حتى قال نافع مولى عبد الله بن عمر: ” أدركتُ المدينة وما بها شاب أنسك، ولا أشد تشميرًا، ولا أكثر صلاة، ولا أطلب للعلم، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان”.
وعن ابن عمر أنه قال: ” وَلَدَ النَّاسُ أَبْنَاءً، وَوَلَدَ مَرْوَانُ أَبًا -يعني عبد الملك-“، ورآه يومًا وقد ذكر اختلاف الناس، فقال: “لو كان هذا الغلام اجتمع الناس عليه”.
وقال رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي: “قيل لابن عمر: إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا، فمَن نسأل بعدكم؟ فقال: إن لمروان ابنًا فقيهًا فسلوه” [تاريخ بغداد (10/ 388)، البداية والنهاية (9/ 62- 63)].
وقد عُرِف عن عبد الملك بن مروان فقهه وتقواه، وملازمته لكتاب الله، فكان يسمَّى: حمامة المسجد؛ لحرصه على المكث فيه، ومداومته قراءة القرآن.
وقد استشهد الإمام مالك في الموطأ بفقهه وأحكامه وقضاياه، قال أبو بكر بن العربي: “فهذا مالك رضي الله عنه قد احتج بقضاء عبد الملك بن مروان في موطئه، وأبرزه في جملة قواعد الشريعة … وأخرج البخاري عن عبد الله بن دينار قال: شهدت ابن عمر حيث اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان كتب: “إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، ما استطعت، وإن بني قد أقروا بمثل ذلك” [العواصم من القواصم (ص 249)].
وكان عبد الملك بن مروان يحض الناس في خلافته على طلب العلم، فيقول: “إن العلم سيقبض قبضًا سريعًا، فمَن كان عنده علم فليظهره غير غالٍ فيه، ولا جافٍ عنه”.
وكان يجد في الأذكار الصالحة، ويوصي بذلك أصحابه، فقد روي ابن أبي الدنيا: أن عبد الملك كان يقول لمَن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة: سبِّحوا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، كبروا بنا حتى تأتي تلك الشجرة، ونحو ذلك” [البداية والنهاية (9/ 64)]، “وكان في حياته الخاصة قد ترك سبل اللهو من الشراب والخمر والموسيقى والغناء” [الدولة الأموية المفترَى عليها (ص 201- 203)].
وعن الأصمعي عن أبيه عن جده قال: “وخطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال: يا رب، إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهمُ فامحُ بقليل عفوك عظيم ذنوبي! فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى، وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام” [البداية والنهاية (9/ 67)].
وقال الشعبي: “خطب عبد الملك، فقال: اللهم إن ذنوبي عظام، وهي صغار في جنب عفوك، فاغفرها لي يا كريم” [تاريخ الإسلام للذهبي (6/ 146)]. ومما يؤخذ على عبد الملك بن مروان، صراعه مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، حيث نازعه عبد الملك الخلافة، وقد عقدت البيعة لابن الزبير. ولذا يقول العلماء أن مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغين على ابن الزبير خارجين على خلافته فهو أمير المؤمنين وقد انعقدت له البيعة ،وكانت مدة خلافته تسع سنين.
وفاة عبد الملك:
قَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: لَمَّا احْتُضِرَ عَبْدُ الْمَلِكِ أَمَرَ بِفَتْحِ الْأَبْوَابِ مِنْ قَصْرِهِ، فلما فتحت سمع قصاراً بالوادي – القصار من يقوم بتقصير وإصلاح الثياب- فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا قَصَّارٌ، فَقَالَ: يَا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فَلَمَّا بَلَغَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ قَوْلُهُ قَالَ: الحمد لله الذي جعلهم عند موتهم يفرون إلينا ولا نفر إليهم.
وقال: لما حضره الموت جعل يندم ويندب وَيَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقُولُ: وَدِدْتُ أَنِّي اكتسبت قوتي يوماً بيوم واشتغلت بعبادة ربي عزوجل وطاعته، وَقَالَ أَبُو مُسْهِرٍ: قِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ أَجِدُنِي كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظهوركم) الآية [الانعام: 94] .وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِدِمَشْقَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَقِيلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَقِيلَ الْخَمِيسِ، فِي النصف من شوال سَنَةَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً، مِنْهَا تِسْعُ سِنِينَ مُشَارِكًا لِابْنِ الزُّبَيْرِ كما ذكرنا، وَثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَنَصِفٌ مُسْتَقِلًّا بِالْخِلَافَةِ وَحْدَهُ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.