المقالات

د. زين العابدين كامل: فتوحات أبي المهاجر دينار مولى مسلمة بن مخلد الأنصاري

فتوحات أبي المهاجر دينار مولى مسلمة بن مخلد الأنصاري 55- 62 هـ:

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبعد.

تحدثنا في مقال سابق عن جهود عقبة بن نافع في فتح إفريقية وبناء مدينة القيروان، ثم تولى بعده أبو المهاجر ليستكمل حركة الفتوحات.

تولى أبو المهاجر القيادة بعد عزل عقبة بن نافع، وكان أبو المهاجر يتمتع بقدرٍ كبيرٍ مِن الفطنة والذكاء، والكياسة والسياسة، وحسن التصرف، وقد رأى بفطنته ورجاحة عقله أن سياسة الشدة التي كان يسير عليها عقبة بن نافع لا بد أن تُستبدل بسياسة كسب القلوب، فالبربر قوم أشداء يعتزون بكرامتهم وحريتهم، فسياسة اللين معهم قد تكون أجدى من سياسة الشدة، وقد نجح أبو المهاجر في سياسته تلك نجاحًا كبيرًا.

كما أن أبا المهاجر قد أدرك أن الذين يحركون البربر في شمال إفريقية ضد المسلمين ويؤلبونهم عليهم، هم الروم؛ ولذلك انتهج سياسة تقوم على كشف حقيقة الروم، وعلى إقناع البربر أن المسلمين ما جاءوا إلى هذه البلاد لأجل أن يستعمروهم ويستعبدوهم ويستغلوا بلادهم، كما يحاول الروم أن يفهموهم، وإنما جاءوا لهدايتهم ولخيرهم، ودعوتهم إلى الإسلام الذي فيه سعادتهم، ومساعدتهم على التحرر من ربقة الروم الذين يستغلون بلادهم منذ قرون.

وكان الروم رغم الهزائم التي حلت بهم في وسط إقليم إفريقية وجنوبه، لا زالوا قوة في الشمال، ولا زالت عاصمتهم قَرْطاجَنّةُ عذراء لم يقصدها أحدٌ من الفاتحين الأولين، ثم إنهم لا زالوا قوة في ساحل المغرب من بَنْزَرْت إلى طَنْجَة، فكان على أبي المهاجر أن يضرب الروم ضربة قوية، ويكسر التحالف بينهم وبين البربر، فسار إلى قرطاجنة وحاصرها حصارًا شديدًا؛ حتى إن الروم أقروا بضعفهم أمام المسلمين، وأن أبا المهاجر سينتصر عليهم، وبالفعل دخل أبو المهاجر العاصمة بجيشه وقوته، فطلبوا الصلح فصالحهم بإخلاء جزيرة شَرِيك([1])، فتركوا له الجزيرة، ونزل فيها جنوده.

وكان أبو المهاجر يهدف من السيطرة على جزيرة شريك القريبة من قرطاجنة: أن يراقب الروم وتحركاتهم، وترك فيها حامية من الجيش، ورفع أبو المهاجر الحصار عن قرطاجنة بعد أن انتزع من الروم جزيرة شريك؛ ذلك الموقع الإستراتيجي المهم، وترك فيها حامية تؤمن ظهر المسلمين، وتراقب تحركات الروم([2])، ثم اتجه بعد ذلك مسايرًا الساحل ناحية الغرب، وقد خافه الروم والبربر جميعًا، فلم يتعرض له أحدٌ حتى وصل إلى مدينة مِيلَة([3])، فوجدها مستعدة للقتال، وكان فيها طائفة من البربر والروم تحصنوا بها، فقاتلهم وانتصر عليهم.

واستقر أبو المهاجر بها وأقام فيها نحوًا من سنتين، وقد استثمر هذه المدة في الاتصال بالبربر، وإفهامهم حقيقة الإسلام ودعوتهم إليه، وقد نجح في سياسته هذه نجاحًا عظيمًا؛ فأقبل البربر على الإسلام.

وآية ذلك: أن المؤرخين لم يتحدثوا عن معارك وقعت له في هذه النواحي، فلقد سكنت تلك النواحي، سكون البحر بعد العاصفة([4])، ثم ترامت الأخبار إلى أبي المهاجر أن جمعًا من الروم والبربر يستعدون لحربه، فقرر المسير إليهم، وكانت زعامة المغربين الأوسط والأقصى لقبيلة أوربة، وكان زعيم هذه القبيلة رجل يدعى: (كسيلة بن لمزم)، وكان كسيلة قوي الشخصية، ويتمتع بقدرٍ مِن الفطنة والذكاء، غيورًا على وطنه، وكان البربر يجلونه ويحبونه، وكان نصرانيًّا متمسكًا بدينه، وكان لا يعرف حقيقة الإسلام والمسلمين، فاستطاع الروم أن يوحوا إليه ما أرادوا في الإسلام والمسلمين، فرأى المسلمين أعداءً لدينه ووطنه، فذهب يدعو البربر لمكافحة المسلمين والاستعداد لحربهم وإجلائهم عن بلادهم، فتحمس البربر بثورة أميرهم كسيلة، فتجمع لكسيلة جيش كبير من البربر والروم([5]).

ونستكمل في مقالنا القادم بمشيئة الله تعالى.

  1. () سميت شريك نسبة إلى شريك العبسي، وهي تقع شرق قرطاجنة.
  2. () النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة (1/ 152)، العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص 277).
  3. () على ساحل البحر بين تونس والمغرب. معجم البلدان (1/ 339).
  4. () تاريخ المغرب الكبير (2/ 35).
  5. () ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومَن عاصرهم مِن ذوي الشأن الأكبر (6/ 146)، تاريخ المغرب الكبير (2/ 38).

 

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى