رسائل البريد العاجل إلى الشباب الحائر (3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
فما زلنا نتحدث عن يقظة الشباب ومقوماته في بناء الأمم، وصناعة المستقبل وتغيير مجرى التاريخ، وقد اختار الله هذا الجيل الأول ليكون فرطًا للأمة وحاملًا لرسالتها، ولم يكن هذا الاختيار عبثًا، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ”. (رواه أحمد)؛ لذا فهذه النماذج التي نذكرها فى هذة السلسلة بمثابة الرسائل إلى شباب الأمة، ومن النماذج الفريدة التي سجلها التاريخ فى صفحاته المشرقة، بل دون حياتها وسيرتها بمداد وأحرف من نور، أسامة بن زيد رضي الله عنه.
هو أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي، كان أبوه مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى أبا محمد، وهو مولى رسول الله من أبويه، وكان يسمى “حِبّ رسول الله “. ولد رضي الله عنه بمكة فى العام السادس من البعثة، وكان رسول الله يحبه حبًّا شديدًا، وكان عنده كبعض أهله. وأمه هي أم أيمن رضي الله عنها، واسمها بركة مولاة رسول الله وحاضنته، ولَّاه النبي صلى الله عليه وسلم على صغر سنِّه قيادة جيش المسلمين المتوجه لغزو الروم في الشام، وقال له يَا أُسَامَةُ؛ سِرْ عَلَى اسْمِ اللهِ وَبَرَكَتِهِ حَتّى تَنْتَهِيَ إلَى مَقْتَلِ أَبِيك، فَأَوْطِئْهُمْ الْخَيْلَ، فَقَدْ وَلّيْتُك عَلَى هَذَا الْجَيْشِ، فَأَغِرْ صَبَاحًا عَلَى أَهْلِ أُبْنَى وَحَرّقْ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرِعْ السّيْرَ تَسْبِقْ الْخَبَرَ، فَإِنْ أَظْفَرَك اللهُ فَأَقْلِلْ اللّبْثَ فِيهِمْ، وَخُذْ مَعَك الْأَدِلّاءَ، وَقَدّمْ الْعُيُونَ أَمَامَك وَالطّلَائِعَ. وقد اعترض بعض الصحابة على استعمال هذا الشاب على المهاجرين والأنصار، ولما علم رسول الله بذلك، غضب غضبًا شديدًا، فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: “أَيُّهَا النَّاسُ أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ فَلَعَمْرِي لَئِنْ قُلْتُمْ فِي إِمَارَتِهِ لَقَدْ قُلْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنَّهُ لَخَلِيقٌ بِالإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا بِهَا وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرًا؛ فإنه من خياركم ثم عَقَدَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسلم بِيَدِهِ لِوَاءً، ثُمّ قَالَ: يَا أُسَامَةُ؛ اُغْزُ بِسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللهِ، اُغْزُوَا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا امْرَأَةً، وَلَا تَمَنّوْا لِقَاءَ الْعَدُوّ، فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ لَعَلّكُمْ تُبْتَلَوْنَ بِهِمْ، وَلَكِنْ قُولُوا: اللهُمَّ، اكْفِنَاهُمْ، وَاكْفُفْ بَأْسَهُمْ عَنّا فَإِنْ لَقُوكُمْ قَدْ أَجْلَبُوا وَصَيّحُوا، فَعَلَيْكُمْ بِالسّكِينَةِ وَالصّمْتِ، وَلَا تَنَازَعُوا وَلَا تَفْشَلُوا فَتَذْهَبَ ريحكم. وقولوا: اللهم، نحن عبادك وهم عِبَادُك، نَوَاصِينَا وَنَوَاصِيهمْ بِيَدِك، وَإِنّمَا تَغْلِبُهُمْ أَنْتَ وَاعْلَمُوا أَنّ الْجَنّةَ تَحْتَ الْبَارِقَةِ.
قال العامري: “ولذلك أمَّره على حداثة سنه، ليدرك ثأره، وقد تأخر أسامة بالجيش لما بلغه نبأ مرض الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتظر حتى وصل الخبر بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما استُخلف أبو بكر، سار إلى الجرف، فأمر أسامةَ أن يسير بالجيش إلى الوجهة التي وجهه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم. ومشى معه أبو بكر يودعه، وأسامة راكبٌ فرسه، فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إما أن تركب، وإما أن أنزل. فقال أبو بكر: والله لا تنزل ولا أركب. وما عليَّ أن أغبر قدميَّ ساعةً في سبيل الله. ثم ودع أسامةَ وأوصاه حيث قال له: سيروا على بركة الله، واغزوا باسم الله، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلُّوا، ولا تقتلوا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً ولا طفلًا، ولا تقطعوا شجرةً، ولا تذبحوا شاةً إلا للأكل. وبالفعل خرج جيش أسامة، واستطاع هذا الجيش أن يقوم بمهمته، ويعود ظافرًا إلى المدينة. وكان لهذا البعث أثرٌ كبير في تثبيت وتوطيد دعائم الدولة الإسلامية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وارتداد الكثير من القبائل، وكان من شأنه أن ألقى الفزع والهلع والرعب في قلوب القبائل العربية التي مرَّ عليها الجيش في شمال الجزيرة العربية، وظهرت موهبة أسامة الفذة في قيادة الجيش، وأثبت أنه كان على صغر سنِّه جديرًا بهذه القيادة. ثم شارك بعد ذلك في حروب الردة والفتوحات، فهذا شاب تحمَّل المسئولية في مرحلة حرجة للغاية، فلقد تحرك بالجيش بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهذا بلا شك سيؤثر على المعنويات وسط الجيش، مهمة صعبة عظيمة ينوء بها الرجال العظام، ولكنه استطاع أن يحافظ على معنويات جيشه، ويهدد إمبراطورية كبيرة ترتعد قلوب كثير من الناس منها.
ومن النماذج التى لابد للشباب أن يقتدوا بها ونحن نبحث عن الطريق السديد للحيارى، رافع بن خديج وسمرة بن جندب رضي الله عنهما.
لما خرج المسلمون إلى أُحد للقاء المشركين، واصطفّ الجيش، قام النبي صلى الله عليه وسلم يستعرض الجيش، فرأى في الجيش صغارًا، يريدون الجهاد في سبيل الله تعالى، يريدون إعلاء كلمة الله، فأشفق عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فرد من استصغر منهم، وكان فيمن رده عليه الصلاة والسلام رافع بن خديج وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافعًا لما قيل: إنه رامٍ يحسن الرماية، فبكى سمرة وقال لزوج أمه: أجاز رسول الله رافعًا وردني مع أني أصرعه، فبلغ رسول الله الخبر فأمرهما بالمصارعة، فكان الغالب سمرة، فأجازه عليه الصلاة والسلام. قال الطبري في تاريخه: “وفي غزوة أحد لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد وعرض أصحابه فرد من استصغر، فرد سمرة بن جندب وأجاز رافع بن خديج لما قيل أنه رام (أي: يجيد الرمي) وفي رواية أنه وقف على رءوس أصابع رجليه يتطاول، فقال سمرة بن جندب لربيبه مري بن سنان: يا أبت أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرع رافع بن خديج، فقال مري بن سنان: يا رسول الله؛ رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرافع وسمرة: تصارعا فصرع سمرة رافعًا فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدها مع المسلمين، فهذه رسالة من سمرة رضى الله عنه لشباب الأمة اليوم، أين العمل من أجل رفعة هذا الدين؟ بل أين جهاد النفس قبل جهاد الأعداء؟ فهذه النماذج الطيبة لابد أن يُحتذى بها، ومن النماذج المشرقة فى التاريخ أيضًا معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء رضي الله عنهما.
قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: “بينما أنا في الصف يوم بدر إذ نظرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت لو أن غيرهما كان بجواري ليحميني، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتك إليه؟ قال: سمعت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. ثم غمزني الآخر فقال لي مثل مقالة صاحبه، ثم لم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: هذا صاحبكما. فانقضا عليه كالصقرين، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل منهما: أنا قتلته. قال: هل مسحتم سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال صلى الله عليه وسلم: كلا كما قتله”. (رواه البخاري) سبحان الله، فرعون هذه الأمة وطاغية زمانه يكون مصرعه على يدي غلامين شابين من شباب الصحابة الكرام، لنعلم إلى أي حد وصل مستوى أولئك الشباب فى التضحية لهذا الدين،كيف شعروا بالمسئولية تجاه الدين، لقد ترجم الصحابة حبهم إلى واقع محسوس وعمل ملموس، نعم؛ صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. والله المستعان.
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.