رسائل البريد العاجل إلى الشباب الحائر (4)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
فلقد قال ابن عمر رضي الله عنهما: “مَن كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضلَ هذه الأمة: أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم”. (أخرجه أبو نعيم في الحلية)، ومما لا شك فيه، أن الله تعالى قد أخرج للأمة في ذلك الزمان عصابة من الشباب ضربوا أروع الصور المشرقة التي تبهر العقول، ولعلنا بذكر سيرتهم نجد سبيلًا إلى الخروج من الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم، ومن هؤلاء الشباب،
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس رضى الله عنه:
يكنى بـ”أبي عبد الرحمن”. أسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، وشهد العقبة مع السبعين، وبدرًا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه، وبعثه إلى اليمن بعد غزوة تبوك، وشيعه ماشيًا في مخرجه وهو راكب، ويعطي صلى الله عليه وسلم شهادة عظيمة لمعاذ رضي الله عنه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى بأن أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام هو أحد شباب الصحابة رضوان الله عليهم، فعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل”. (رواه الإمام أحمد ). وعن أبي بحرية قال: دخلت مسجد حمص فإذا أنا بفتى حوله الناس جعدٍ قططٍ، فإذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ فقلت: من هذا؟ قالوا: معاذ بن جبل. وعن أبي مسلم الخولاني قال: أتيت مسجد دمشق فإذا حلقةٌ فيها كهولٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا شاب فيهم أكحل العين برّاق الثنايا. كلما اختلفوا في شيء ردّوه إلى الفتى. قال: قلت لجليسٍ لي: من هذا؟ قالوا: هذا معاذ بن جبل، عن شهر بن حوشب قال: قال عمر بن الخطاب: لو استخلفت معاذ بن جبل فسألني عنه ربي عز وجل: ما حملك على ذلك؟ لقلت: سمعت نبيك صلى الله عليه وسلم يقول: “إن العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل كان بين أيديهم رتوةً بحجر”. (أخرجه أبو نعيم في الحلية)، وعن عمر بن قيس عمن حدثه عن معاذ قال: لما حضره الموت قال: انظروا أصبحنا؟ قال: فأتي فقيل: لم نصبح حتى أتى في بعض ذلك فقيل له: قد أصبحت. فقال: أعوذ بالله من ليلة صباحها النار، مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك وأن اليوم أرجوك، إنك لتعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري النهار ولا لغرس الأشجار ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. اتفق أهل التاريخ أن معاذًا مات في طاعون عمواس بناحية الأردن من الشام سنة ثماني عشرة، واختلفوا في عمره على قولين: أحدهما: ثمان وثلاثون سنة، والثاني: ثلاث وثلاثون، فأين نحن من هذة الأمثلة التى تحار فيها العقول، فما أحوج شباب الأمة اليوم للعودة إلى تاريخ أسلافهم وقراءة سيرهم، وبالأخص سير الشباب منهم ليقارن حاله بحالهم، وليعرف ماكان عليه أولئك فيسعى للتشبه والاقتداء بهم، وما دمت على ضربهم فسوف تلحق بهم، ومن النماذج التى أبهرت العقول والألباب.
سعد بن معاذ بن النعمان رضى الله عنه:
يكنى بـ”أبي عمرو”، أسلم سعد على يد مصعب بن عمير رضى الله عنه، فأسلم بإسلامه بنو عبد الأشهل، وهي أول دار أسلمت من الأنصار. وشهد بدرًا وأُحدًا وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ، وحمل رضي الله عنه لواء الأنصار، وخطب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث على الجهاد وقال: “فوالذي بعثك بالحق نبيًّا لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك”، بنى رضي الله عنه في بدر عريشًا للنبي صلى الله عليه وسلم ليشرف منه على المعركة، وقام على باب العريش شاهرًا سيفه دفاعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ورمي يوم الخندق. ثم انفجر كلمه بعد ذلك فمات في شوال سنة خمس من الهجرة وهو ابن سبع أو ست وثلاثين سنة، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن بالبقيع وقصته فى بنى قريظة معروفة، وقد طلبوا من رسول الله النزول على حكم سعد، بعد أن حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ، وقد قال يومها، قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أُحكم فيهم”. قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم، وتقسم أموالهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد حكمت فيهم بحكم الله وبحكم رسوله”. وفى رواية، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فى أيام مرضه وإذا مر به يقول: “كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟”. فيخبره سعد بحاله، وفى رواية عن سماك أنه سمع عبد الله بن شداد يقول حتى كانت الليلة التي نقله قومه فيها، فثقل فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل، وكانت حالته خطيرة، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يسأل عنه، فقالوا: قد انطلقوا به، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجنا معه، فأسرع المشي حتى تقطعت شسوع نعالنا وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، فشكا ذلك إليه أصحابه، قالوا: يا رسول الله؛ تسرع بنا سرعة شديدة، يا رسول الله؛ أتعبتنا في المشي، فقال: إني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت حنظلة، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيت وهو يُغسل وأمه تبكيه، وهي تقول: ويل أمك سعدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل نائحة تكذب إلا أم سعد”، ثم خرج به، قال: يقول القوم أو من شاء الله منهم: يا رسول الله؛ ما حملنا ميتًا أخف علينا من سعد -مع أن سعدًا كان عظيم الجسم بدينًا- فقال: ما يمنعكم من أن يخف عليكم وقد هبط من الملائكة كذا وكذا -يقول الراوي: سمى عدة كثيرة لم أحفظها- لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم، قال الألباني: وإسناده صحيح، ورجاله كلهم ثقات، وورد في حديث آخر في صحيح الجامع أخرجه النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “هذا العبد الصالح الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفًا من الملائكة، لم ينـزلوا إلى الأرض قبل ذلك لقد ضم ضمة -أي: في قبره- ثم أفرج عنه” سبعون ألف من الملائكة ما نزلوا من قبل، نزلوا لتشييع جنازة سعد بن معاذ، وفتحت له أبواب السماء، واهتز له عرش الرحمن، وقد ورد في رواية: “اهتز العرش لموت سعد بن معاذ من فرح الرب عز وجل”، وعن البراء رضي الله عنه يقول: أُهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال رسول لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل أو خير من هذا”. (أخرجاه في الصحيحين)، وعن الحسن قال: لما مات سعد بن معاذ وكان رجلًا جسيمًا جزلًا. جعل المنافقون وهم يمشون خلف سريره يقولون: لم نرَ كاليوم رجلًا أخف. قالوا: أتدرون لِم ذلك؟ لحكمه في بني قريظة فذُكر للنبي صلى الله عليه فقال: “والذي نفسي بيده لقد كانت الملائكة تحمل سريره”. (حسن: أخرجه ابن سعد في الطبقات).
فيا ترى ما السريرة التي كانت بين سعد وربه تعالى؟ لقد قضى سعد رضي الله عنه ست سنوات فقط فى الإسلام، هذه مسألة تحتاج إلى تفكر، ست سنوات فقط، ويهتز لموته عرش الرحمن فرحًا بقدومه، فكم بلغنا نحن من العمر؟ وماذا قدمنا لدين الله تعالى؟ وما السرائر بيننا وبين الله تعالى؟
والله المستعان .. ونستكمل حديثنا فى المقال القادم بمشيئة الله تعالى.