مقالات تاريخية

نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (13)

تحقيق موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الفتنة (3)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

تحدثنا في مقالنا السابق عن موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وعن موقفه من طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم بعد وصولهم  إلى البصرة، وقد تحرك هو نحو الكوفة، وكان هدفه هو القضاء على الفُرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتى من قوة وجهد، وأرسل علي رضي الله عنه من الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته، ونسلط الضوء خلال هذا المقال حول محاولات الصلح التي وقعت بين الفريقين.

محاولات الصلح بين الفريقين والاتفاق على إبرام الصلح:

لقد شارك في محاولات الصلح عددُ من الصحابة وكبار التابعين ممن اعتزلوا الأمر، ومنهم: عمران بن حصين رضي الله عنه، وكعب بن سُور أحد كبار التابعين، فقد بذل جهدًا كبيرًا من أجل الإصلاح ، حتى أنه قُتل وهو بين الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله والكف عن القتال وحمل السلاح، وكذلك فعل القعقاع بن عمرو التميمي، وهومن التابعين أيضًا، حيث أرسله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: “الق هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظم عليهما الاختلاف والفرقة”، وذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بنى من أجل الإصلاح بين الناس، فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها، ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة: من أجل الإصلاح بين الناس،  فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له؛ قتلة عثمان رضي الله عنه، لابد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلًا لأحكامه، وإن اقتصَّ منهم كان هذا إحياءً للقرآن، قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستُّمائة من قتلة عثمان، وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حٌرقوص بن زهير السعدي، – هو أحد قتلة عثمان-  فلما هرب منكم احتمى بقومه من بنى سعد، ([1]) ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه من ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإن تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بنى سعد من أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم، فقد وقعتم في المحذور،  وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر من هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لبنى سعد.

وهذا ما حدث مع علي، فقد بين لهم القعقاع أن الذي يُريدونه من قتل قتلة عثمان مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة ، حيث أنهم عجزوا في النهاية  عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، فعلي بن أبي طالب لا يمكنه قتلهم لأنه كان يرى أن تتم البيعة له أولاً وتستقر وتهدأ الأمور ثم يحاكمهم ويقتص منهم، ولم يمكنه ذلك لعدم مبايعة كثير من الصحابة له وعلى رأسهم عائشة وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وكثير من أهل البلاد، ثم اختلاط هؤلاء القتلة بالناس بعد استيلائهم على المدينة وكانوا هم الغالبين وبيدهم السلاح ثم اختلاطهم بجيشه أيضًا.

وهنا تأثرت أمُّ المؤمنين ومن معها بمنطق القعقاع وحجته المقبولة، فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: أقول: “هذا أمر دواؤه التسكين، ولابد من التأني في الاقتصاص من قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم عليًا واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهابًا لهذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً ، ولا تُعرَّضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وأيم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته من هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة”.

وبعد هذة الكلمات العذبة والتى أخلص فيها القعقاع وافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم علي، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر إن شاء الله، ثم عاد القعقاع إلى علي في ذي قار وقد نجح في مهمته، وأخبر عليًا بما جرى معه، فأُ عجب علي بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه، ثم أرسل علي رضي الله عنه رسولين إلى عائشة والزبير ومن معهم يستوثق مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاء الاثنان عليًا، وأخبراه بأن القوم يريدون الصلح وهم على اتفاقهم مع القعقاع ، فارتحل علي حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مُضر إلى مُضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح, وكان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما نوى الرحيل قد أعلن قراره: ألا وإني رائح غدًا فارتحلوا ( يقصد إلى البصرة)،  ولا يرتحلن غدًا أحد أعان على قتل عثمان بشيء ([2])،  وهكذا اتفق الطرفان على الصلح، ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.

([1])  وكان قتل أكثرهم بأمر طلحة والزبير رضي الله عنهما بعد معارك بالبصرة ، فقتلوا كل من شارك من أهل البصرة وكانوا نحو ستمائة رجل ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير السعدي، وقد قتل بعد ذلك بمدة وكانت قد منعته قبيلته.

([2])  الطبرى: تاريخ الرسل والملوك – ابن سعد :الطبقات،- ابن الأثير: الكامل في التاريخ – ابن كثير:البداية والنهاية.

زر الذهاب إلى الأعلى