هل كان الشاعر أبو نواس سكيرًا ونديمًا للخليفة العباسي هارون الرشيد؟
معلومة شهيرة انتشرت بين المثقفين عن الشاعر المعروف (أبي نواس) و(هارون الرشيد)، وهي اتهامه بأنه كان شاعرًا ماجنًا سكيرًا، والأهم أنه كان صديقًا ونديمًا للخليفة العباسي (هارون الرشيد) الذي كان يشاركه هذا المجون.
وقد انتشرت هذه الإشاعة من خلال كتب المسامرات الأدبية المعروفة مثل كتاب (الأغاني) للأصفهاني
تصحيح وتنقيح:
فمن المعلوم أن المؤرخين الشيعة كانوا يتربصون بالخليفة العباسي (هارون الرشيد)، وهذه المعلومة هي إحدى أهم إشاعاتهم عنه حيث رددوا الأساطير عن مجون هارون الرشيد مع أبي نواس وانتشرت هذه الخرافات والحكايات في كتب المسامرات الأدبية التي لا تعتبر قطعًا مصدرا صحيحًا للتاريخ؛
فكُتب التراث العربي القديم كتب بالغة الأهمية وقيمتها هائلة في مجال الثقافة العامة؛ لولا أن هواة القراءة لا يعرفون عنها شيئا في الغالب، لاسيما في مجال أدب المسامرات.
فأدب المسامرات يحظى بشعبية طاغية حتى بين آحاد الناس لكنهم لا يفقهون شيئًا عن مصادره بل يكتفون بسماع الأقاصيص وأخبار الشعراء القدامى والأمثال دون أن يعرفوا بتوافر هذه الكنوز التراثية في متناول أيديهم.
والمقصود بأدب المسامرات في التراث العربي هو المجال الذي برع فيه أصحاب القصص ورواة الأشعار ــ لا سيما في العصر العباسي ــ حيث حفظوا لنا آلاف الوقائع والقصص الشيقة والمواقف الطريفة والأمثلة ذات القيمة العليا في حفظ الأخلاق والمروءة وأقاصيص العشاق العرب المشاهير ونحو ذلك.
لكن ينبغي التنبيه هنا لملحوظة بالغة الأهمية فيما يخص مجال كتب المسامرات عمومًا؛ وهذه الملحوظة تتلخص في أن كتب المسامرات لا تحتوي الأشعار وقصص الحب والمواقف الطريفة فحسب، بل تحتوي روايات تاريخية كثيرة جدًا، كما تحتوي على العديد من الأحاديث النبوية والآراء المنسوبة لأعلام الفقهاء ونحو ذلك.
ويؤسفنا أن نقول بأن معظم هذه الروايات التاريخية والأحاديث النبوية مزورة وموضوعة ولا يصح منها شيء؛ ونادرًا ما تكون الأحاديث والروايات التاريخية تستند إلى سند صحيح وفق منهج علماء الحديث والتاريخ المتعارف عليه.
ويعود السبب في هذا إلى أن طبيعة كتب المسامرات وكونها كتب للتسلية كتبها قُصَاص ورواة طرائف مما جعلها ليست محلًا للثقة في رواية الحديث والتفسير والتاريخ، حيث يتساهل مؤلفوها في رواية الوقائع الشاذة أو المنكرة أو حتى وضع وتأليف تلك الروايات.
وقد اشتهر الوَضّاعون”[1]” المؤلفون لكتب المسامرات مثل (حماد الرواية) و(الشرقي بن قطامي) وغيرهم
هذا رغم أن كتب المسامرات نفسها تعتبر أحد المصادر الرئيسية من مصادر الأدب العربي، لكنها لا تعتبر قطعًا مصدرًا بنفس الأهمية فيما يخص الأحاديث ووقائع التاريخ الإسلامي.
وقد احتوت بعض هذه المراجع على أشعار وأدبيات كثيرة مزورة وملفقة على كبار الشعراء لكنها خضعت كغيرها من العلوم للتحقيق والبيان.
لهذا ينبغي للقارئ قبل الخوض في تلك المراجع أن ينتبه إلى أنها كتب للتراث الأدبي ولا تعتبر مصدرًا للتاريخ والحديث.
ونتوقف عند أول وأشهر المراجع في هذا المجال رغم كونه لا يستحق هذه الشهرة وهذه القيمة ونعني به كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني.
وكتاب الأغاني من أضخم موسوعات التراث العربي، نشرته وزارة الثقافة المصرية مؤخرًا في 24 مجلدًا بسعر زهيد، ورغم كونه أشهر المراجع في بابه، إلا أنه أقلها قدرًا من حيث القيمة العلمية، لأن كاتبه (أبي الفرج الأصفهاني) شيعي معروف، وعلى عادة الشيعة احترف الكذب في مرجعه الضخم وحشاه بآلاف الروايات التاريخية والأدبية المكذوبة، بالذات تلك التي تطعن في الصحابة وكبار خلفاء بني العباس ومنهم (هارون الرشيد) تحديدًا لكونه عدوًا معروفًا لطوائف الشيعة،
ومن أشهر تلك الأقاصيص المزورة في (كتاب الأغاني) وغيره من كتب المسامرات حول هارون الرشيد هي القصص الخرافية الكثيرة التي تمت روايتها عن الشاعر المعروف (أبي نواس)، والتي احتوت على حكايات ومحاورات وأشعار مخجلة منسوبة لأبي نواس في حضرة الرشيد.
وكل تلك الروايات المعروفة والمنتشرة عن (هارون الرشيد) و(أبي نواس) مزورة وملفقة بإجماع أهل التاريخ لأن (أبا نواس) لم يدخل على الرشيد قط إلا مرة واحدة بصحبة (أبي العتاهية) شاعر الرشيد المعروف، وما دخل على الرشيد بعدها قط
تصوروا!
أي أن (أبا نواس) الذي روت عنه كتب المسامرات آلاف الروايات والمحاورات بينه وبين هارون الرشيد، كشف لنا العلماء أنه لم يلتق بالرشيد قط إلا مرة واحدة في صحبة شاعر الرشيد المعروف (أبي العتاهية)، بينما كُتب المسامرات تكاد تجمع على أنه كان صاحبًا للرشيد طوال حياته!
والأنكى من هذا أن الأشعار الفاحشة المنسوبة لأبي نواس (الحسن بن هانئ) أشعار ملفقة لم يقلها أصلاً وإنما زَوّرها عليه كُتّاب الفُرس من المندسين في زمن الرشيد سعيا لتشويه صورته.
ولا شك أن هناك أشعارًا متجاوزة لأبي نواس لكن مؤرخي التاريخ الأدبي مجمعون على أنه تاب عنها وكان من أجمل أشعاره الأخيرة قوله في مناجاة الخالق عز وجل:
يا رب إن عظُمت ذُنُوبي كَثرةً ** فقد علمتُ بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا مُحسِنٌ ** فبمن يلوذُ ويستَجِيرُ المُجرِمُ
أدعوك ربي إذ أمرت تَضرُعاً ** فإذا رَدَدتُّ يدي فمن ذَا يَرحمُ
مالي إليك وسيلةٌ إلا الرَجَا **وجَميلُ عَطفِكَ ثم إني مُسلِمُ
وقد بلغت هذه الأبيات الإمام (الشافعي) فقرأها وبكى بكاءً شديدًا.
ومما يُحمد حقًا للأزهر والتليفزيون المصري أنهم قدموا مسلسلاً رائعًا عن تاريخ (هارون الرشيد) تمت مراجعته في الأزهر واحتوى على أدق الروايات التاريخية لعصر الرشيد وقام ببطولته الفنان (نور الشريف)، كما احتوى المسلسل الرائع على جانب هام جدًا من مؤامرة البرامكة والفرس لتزوير الروايات المكذوبة على (هارون الرشيد) لإظهاره بمظهر الخليفة الداعر شارب الخمر!
بينما أجمع المؤرخون لسيرة هارون الرشيد كالطبري وابن كثير على أن الرشيد كان من أتقى الخلفاء وأكثرهم حزمًا في حدود الله، وكان يحج عامًا ويغزو عامًا، وله ورد مائة ركعة كل يوم.
وليس هذا فقط.
بل كان هارون الرشيد من أشد خلفاء بني العباس في معاقبة الزنادقة وحربهم، وسار في هذا النهج على سابقيه من الخلفاء أبي جعفر المنصور والمهدي والهادي، ولم يكن يسمح في مجلسه بشيء يمس أصول الشريعة ولو كان سؤالًا عابرًا.
وقد روى (ابن كثير) في (البداية والنهاية) أن (الرشيد) استمع في مجلسه لحديث النبي عليه السلام الصحيح الذي يحكى عن محاورة آدم لموسى عليهما السلام حول الأكل من الشجرة،فقال له آدم عليه السلام: (أتلومني على أمر قد كتبه الله علىّ قبل أن أُخلق)
فعقب النبي عليه السلام قائلا: (فَحَج آدم موسي) أي رد عليه ردًا مُسكتا. والحديث ثابت صحيح ومتفق عليه.
وأثناء سماع الرشيد للحديث علق أحد الجالسين قائلاً: أين التقيا ؟!
كأنه يريد التشكيك في الحديث والواقعة رغم ثبوت روايته عن النبي عليه السلام؛
فغضب الرشيد غضبًا عنيفًا مهددًا الرجل واصفًا ما قاله بأنه زندقة.
فكيف بمثل هذا الرجل المتشدد في أمور العقيدة والشرع أن يحل الخمور وأشعار الفحش في مجلسه ؟!
كما أن زوجته وابنة عمه (زبيدة بنت جعفر) كانت مشهورة جدًا بصلاحها وبإحيائها لتلاوة القرآن مع جواريها كل ليلة، فضلاً على كونها أنفقت معظم مالها لتعمير طريق الحج وحفر الآبار وتجهيز مواطن نزول القوافل.
ولكن ليست كل كتب المسامرات بطبيعتها مليئة بالروايات الفاحشة بل كما قلنا منها كتب حفظت لنا تراثًا أدبيًا طريفًا فيه من مواقف الحكمة والمروءة الشيء الكثير.
وأهم مرجع في باب المسامرات حقًا، والذي يستحق أن يوضع في المقدمة لكونه مرجعًا كتبه واحد من أهم علماء السُنة وهو كتاب (عيون الأخبار) للفقيه الأديب (ابن قتيبة الدينوري)
والكتاب في أربعة أجزاء ماتعة احتوى معظمه على روايات سليمة وحسنة وغطت أبواب الفضائل جميعًا.
والمرجع الثاني في هذا الباب يحتله بلا منازع كتاب (العقد الفريد) للأديب الأندلسي (ابن عبد ربه) الأندلسي ومطبوع في سبعة أجزاء عامرة حافلة بالأشعار والنوادر التاريخية القيمة.
وبعدهم يأتي كتاب (بهجة المجالس) لابن عبد البر.
وبعد ذلك تتساوى المراجع من حيث القيمة العلمية لكنها تختلف في الحجم؛ فيأتي أكبرها ممثلاً في كتاب (ربيع الأبرار وفصوص الأخبار) للزمخشري، ثم (محاضرات الأدباء) للراغب الأصفهاني،
وأخيرًا:كتاب (الكشكول) للعاملي في جزأين، وكتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) لشهاب الدين الأبشيهي مطبوع في مجلد ضخم، وكلاهما أكثر مراجع هذا المجال اختصارًا، لكنهما يحتويان على كم هائل من الطرائف والحكايات والأشعار بأسلوب جميل سهل القراءة.
[1] ــ الوضاعون نسبة إلى الوضع وهو في تعريف المحدثين الكذابون الذين زوروا الأحاديث النبوية ونسبوها كذبًا للنبي عليه السلام، وقد عكف علماء الحديث على معالجة سائر الأحاديث المروية وبيان الصحيح والضعيف والموضوع فيها، لهذا فإن كلمة وضع أو موضوع معناها التزوير والتلفيق، وهي تسري على الأحاديث النبوية وأيضا على الوقائع التاريخية بل وعلى الأشعار المنسوبة لشعراء العرب القدامى.