مقاصد المكلفين (21)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف نسلط الضوء على مقاصد المُكلفين، وأمر النية والإخلاص، وقد طفنا في مقالنا السابق حول مسألة إخفاء العبادة وإسرارها، وهل الإسرار بالعبادة هو الأفضل والأكمل على الدوام أم لا، ونستكمل حديثا حول هذه المسألة أيضًا؛ لما تشكله من أهمية بالغة.
قال الدكتور عمر الأشقر -رحمه الله-: “قد نُقل عن السلف الصالح في إخفاء الأعمال التي يستحب أن تُخفى أمور تدعو إلى الإعجاب، وتضع أصحابها في مستويات كريمة، تجعلهم أسوة يحتذى ويقتدى بهم في هذا”؛ فلقد ذُكر عن ابن سيرين -رحمه الله- أنه كان يضحك بالنهار، ويبكي بالليل، وكان في ذيل أيوب السختياني بعض الطُول؛ وذلك لأن الشهرة في عصره كانت بتقصير الثوب، وكان ابن أدهم إذا مرض يُرى عنده ما يأكله الأصحاء (تلبيس إبليس لابن الجوزي).
لكن هذا الأمر لابد أن يكون بوسطية واعتدال لا بغلو وتشدد؛ فلا يبالغ الإنسان في هذا، فبعض الناس يفعلون أمورًا قد يلامون عليها، لكيلا تظهر أعمالهم أمام الناس، ومما يروي وهب بن منبه في هذا عن رجل من الأمم المتقدمة قال: “كان رجل من أفضل أهل زمانه، وكان يُزار، فيعظَّم، فاجتمعوا إليه ذات يوم، فقال: إنّا قد خرجنا من الدنيا، وفارقنا الأهل والأموال مخافة الطغيان، وقد خفت أن يكون قد دخل علينا في هذه حالة من الطغيان أكثر مما يدخل على أهل الأموال في أموالهم، أرانا يحب أحدنا أن تقضى له حاجته، وإن اشترى أن يحابى لمكان دينه، فشاع ذلك الكلام حتى بلغ الملك، فأُعجب به، فركب إليه ليسلِّم عليه، ولينظر إليه، فلما رآه الرجل قيل له: هذا الملك قد أتاك، ليسلّم عليك، فقال: وما يصنع؟ قال: للكلام الذي وعظت به، فسأل غلامه هل عندك طعام؟ فقال: شيء من ثمر الشجر مما كنت تفطر به، فأمر به، فأتي به، فوُضع بين يديه، فأخذ يأكل منه، وكان يصوم النهار، ولا يفطر، فوقف عليه الملك، فسلَّم عليه، فأجابه إجابة ضعيفة، وأقبل على طعامه، يأكله، فقال الملك: أين الرجل؟ فقيل له هو هذا، قال: هذا الذي يأكل؟ قالوا: نعم، قال: فما عند هذا من خير، ثم انصرف الملك، فقال الرجل: الحمد لله الذي صرفك عني بما صرفك به”.
وفي رواية أخرى عن وهب: “أنّه لما أقبل الملك قدم الرجل طعامه، فجعل يضع البقول في اللقمة الكبيرة ويغمسها في الزيت، فيأكل أكلا عنيفًا، فقال له الملك: كيف أنت يا فلان؟ فقال: كالناس، فردَّ الملك عنان دابته، وقال: ما في هذا من خير. فقال: الحمد لله الذي أذهبه عني، وهو لائم لي”.
فهذه القصة وإن كانت من الإسرائيليات إلا أن فيها عظة وعبرة؛ حيث إن الرجل المذكور قد ظهر بمظهر يلام عليه، والمنهج الوسطي في هذا الباب هو أن مَن ظهر عمله ولم يقصد إظهاره للناس ومدحه عليه، لا حرج فيه، فإن ظهر العمل الصالح وحمده الناس عليه، فتلك بشرى عاجلة فليفرح بها، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: (تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ) (رواه مسلم). ومعنى عاجل بشرى المؤمن: هو أن يعمل المؤمن العمل الصالح مخلصًا لله وحده فيه، ولا يرجو به غير وجه الله -تعالى-، فيطلع الناس عليه فيثنوا عليه به، فيسره ذلك ويستبشر به خيرًا؛ فتلك عاجل بشرى المؤمن.
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.