مقاصد المكلفين (14)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألة مهمة، وهي: حكم الإِخلاص في العبادات، وهل الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله أم هو شرط للثواب لا للصحة؟ ونطوف في هذا المقال بمشيئة الله -تعالى- حول أمر الرياء والعجب والسمعة، ومدى خطورتهم على العبد، والرياء هو: أن يقوم العبد بالعبادة التي يتقرب بها لله، ولا يريد بها وجه الله -عز وجل-، بل يريد عرضًا دنيويًا.
ومن صور ذلك: أن يعمل العمل الصالح، ويطلب به الدنيا، ويصرِّح بذلك ولا يخفيه، كمن يطلب العلم الديني لقصد الرئاسة والوظيفة، أو يحج لتحصيل مال موعود به وهكذا، أو أن يخفي ذلك في قلبه، فهو يقوم بالعمل، ولكنه يبتغي به عرضًا من أعراض الدنيا، وقد عرف العلماء الرياء بتعريفات كثيرة.
قال الحارث المحاسبي في تعريف الرياء: “الرياء إرادة العبد العباد بطاعة الله”.
وقال الغزالي: “الرياء التشبه بذوي الأعمال الفاضلة طلبا للسمعة والمفاخرة”.
وقال العز بن عبد السلام: “الرياء إظهار عمل العبادة، لينال مٌظهرها عرضًا دنيويًا، إما بجلب نفع دنيوي أو تعظيم أو إجلال”.
وقال القرطبي: “حقيقة الرياء: طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس”.
وقال ابن حجر: “هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس، فيحمدوا صاحبها”.
وعرفه أبو بكر بن العربي بقوله: “هو أن يري الناس أنّه يعمل عملًا على صفة، وهو يضمر في قلبه صفة أخرى”.
وهناك أيضًا (السمعة): فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ) (متفق عليه)، والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسّة السمع.
قال الحافظ ابن حجر: “المراد بالسمعة نحو ما في الرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع، والرياء بحاسة البصر”، فالتسميع على هذا لا يكون إلا في الأمور التي تٌسمع كقراءة القرآن وذكر الله -تعالى- ونحو ذلك، إلا أن العز بن عبد السلام يرى أن المراد بالتسميع هو أن يحدّث المرء غيره بما يفعله من الطاعات التي لم يطلع عليها المتحدث، أمّا الرّياء فهي الطاعة التي يظهرها الفاعل كي يراها الناس، وقد يجمع العبد بين هذين الأمرين القبيحين: الرياء والتسميع.
قال العز بن عبد السلام -رحمه الله- في ذلك: “لو راءى بعبادات، ثمَّ سمَّع موهمًا لإخلاصهما، فإنه يأثم بالتسميع والرياء جميعًا”.
والنوع الثالث هو (العُجب)، قال ابن تيمية: “وكثيرًا ما يُقرن الناس بين الرياء والعجب”، ثم فرّق بينهما قائلًا: “فالرياء من باب الِإشراك بالخلق، والعجب من باب الِإشراك بالنفس”، والعجب بالطاعات إنما يكون نتيجة استعظام الطاعة، وكأنه يمنُّ على الله -تعالى- بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)، والمُعجب المغرور بنفسه وبعبادته وطاعته لا يحقّق (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، كما أن المرائي لا يحقق: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (الفاتحة:5).
ومتى شُغل العبد بتحقيق (إِياكَ نَعْبُد وَإيّاكَ نَسَتعيِنُ) (الفاتحة:5)، خرج عن الرياء والعجب، وفي الحديث: (ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) (رواه البيهقي في شعب الإيمان).
والعُجب آفة تُحبط العمل، قال النووي -رحمه الله تعالى-: “اعلم أنَّ الإخلاص قد يعرض له آفة العُجب، فمن أُعجب بعمله حبط عمله، وكذلك مَن استكبر حبط عمله” (مقاصد المكلفين فيما يُتعبد به لرب العالمين، للشيخ عمر الأشقر).
ونسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا ممَن يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.