مقاصد المكلفين (20)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف حول مقاصد المُكلفين، وأمر النية والإخلاص، وقد سلطنا الضوء في مقالنا السابق على أحد الأسباب المهمة لدفع الرياء عن قلب العبد، وهو: النظر في العواقب الأُخروية للمرائي، وذكرنا أنه لابد للمسلم الذي يؤمن بيوم الحساب والجزاء، ويعلم شدة حاجته إلى الأجر والثواب، أن يحذر من الرياء، حتى ينجيه الله يوم القيامة، ولا يفضحه على رؤوس الأشهاد، والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
إخفاء العبادة وإسرارها:
نتحدث في هذا المقال عن مسألة إخفاء العبادة وإسرارها، فلقد كان العلماء الأخيار يحبون إخفاء أعمالهم، وذلك حرصًا منهم على ألا يخالطها الرياء والعجب، ولا يتركون للشيطان مدخلًا يشوش عليهم في أمر نياتهم، وقد عد الرسول -صلى الله عليه وسلم- المُسر بالصدقة أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله، وذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- صنفًا آخر يستحق ذلك التكريم والفضل، وهو الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (سبعةٌ يظلُّهمُ اللَّهُ في ظلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلَّا ظلُّهُ: الإمامُ العادلُ، وشابٌّ نشأَ في عبادةِ اللهِ، ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجدِ، ورجلانِ تحابَّا في اللهِ اجتمعا علَيهِ وتفرَّقا عليه، ورجلٌ طلبتهُ امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمالٍ، فقالَ: إنِّي أخافُ اللَّه، ورجلٌ تصدَّقَ بصدقةٍ أخفاها حتَّى لا تعلمَ يمينُه ما تُنفقُ شمالُه، ورجلٌ ذَكرَ اللَّهَ خاليًا ففاضت عيناهُ) (متفق عليه).
وقد نصّ الله في القرآن على أفضلية صدقة السر على صدقة العلانية في قوله -تعالى-: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة:271).
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل الإسرار بالعبادة هو الأفضل والأكمل على الدوام؟
فمِن العلماء مَن خص أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض، وقد استثنى بعض العلماء أولئك الذين يُقتدى ويُتأسى بهم، ويكون لأفعالهم تأثير في من حولهم، فهؤلاء يُستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار، بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، ولا يكون ذلك إلا لقوَّة إيمانهم وصدق يقينهم. (انظر: تفسير القرطبي).
وقد عقد العز بن عبد السلام -رحمه الله- فصلًا في كتابه: (قواعد الأحكام في تفاوت فضل الإسرار والإعلان بالطاعات)، قال فيه: “إن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان؛ لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب: أن الطاعات ثلاثة أضرب:
أحدها: ما يشرع مجهورًا: كالأذان والِإقامة، والتكبير، والجهر بالقراءة في الصلاة والخطب الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في إقامة الجمعة والجماعات، والأعياد، والجهاد، وعيادة المرضى، وتشييع الأموات؛ فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص، فيأتي به مخلصًا كما شرع، فيحصل على أجر ذلك الفعل، وعلى أجر المجاهد؛ لما فيه من المصلحة المتعدية.
الثاني: ما يكون إسراره خير من إعلانه: كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أذكارها؛ فهذا إسراره خير من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة، ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء أو عرف ذلك من عبادته كان الإخفاء أفضل من الإبداء؛ لقوله -تعالى-: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
ومن أمن الرياء فله حالان:
أحدهما: ألا يكون ممن يُقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار.
والثاني: أن يكون ممن يُقتدى به، فالإبداء أولى؛ لما فيه مِن سدِّ خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء” (قواعد الأحكام في مصالح الأنام).
وقد علَّق الدكتور عمر الأشقر -رحمه الله تعالى- على ما سبق من كلام العز فقال: “بقيت قضية لم يتعرض لها العز -رحمه الله تعالى-، وهي: كتمان الذنوب وإخفاؤها، فقد يظن بعض الناس أن ذلك من الرياء، وهذا غير صحيح؛ فإن الصادق الذي لا يرائي إذا وقعت منه المعصية كان له سترها؛ لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها. وقد ورد عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (اجْتَنِبُوا هَذِهِ القاذُوراتِ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ) (رواه الحاكم، وصححه الألباني)” (مقاصد المكلفين).
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.