مقاصد المكلفين (9)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد استعرضنا في المقال السابق بعض الأدلة التي تشير إلى أن النيّات هي التي تميز الأعمال، وهذا يدل أيضًا على خطورة أمر النية وما تمثله من أهمية بالغة، فربما تتفق الأعمال في الصورة والمظهر، ولكن يتميز بعضٌها عن بعض بالنيات، وربما كان الفعل الواحد من أعظم الطاعات إذا نوى به صاحبه نيّة صالحة، ويكون كذلك من أعظم الذنوب إذا نوى به نية سيئة.
إذًا فالنية هي الأصل وهي المقياس، بل وهي المحول العجيب الذي يحول العادات إلى عبادات، وتحول الأعمال العادية التي تضمحل وتزول بمجرد الانتهاء منها إلى أعمال باقية خالدة يُثاب عليها فاعلها يوم القيامة، فالطعام والشراب والنكاح؛ كل ذلك زائل و ذاهب لا محالة، فإذا قصد العبد به نيّة صالحة واحتسبه لله كان أجره وثوابه، كأن ينوي التقوي بالطعام والشراب على طاعة الله، وكأن يعفَّ نفسه عن الزنا بالنكاح، ويطلب الولد الصالح الذي يعبد الله ويجاهد في سبيله، فإنَّ هذه الأعمال تتحول إلى أعمال باقية صالحة؛ ولذا يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ) (متفق عليه)، فالشرط هنا أنه يحتسبها لله -تعالى-، وقد قال رجل للرسول -صلى الله عليه وسلم-: “إنيّ أقف الموقف أريد وجه الله، وأريد أن يُرى موطني، فلم يرد عليه حتى نزلت الآية: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110)، (رواه ابن أبي حاتم).
فاعتبر إفساد النية إفسادًا للعمل وإشراكًا بالله، وهذا بلا شك يجعل العبد يقظًا دائمًا، يسائل نفسه كلما أقدم على عبادة من العبادات: لماذا سأفعلها؟ ويستحضر النوايا الصالحة قبل الشروع فيها؛ ولذا فليس بين العلماء نزاع في أن العبد إذا تكلم بلسانه بخلاف ما نوى في قلبه، كان الاعتبار بما نوى في قلبه؛ ذلك لأن النيَّة هي عمل القلب، وهي الأصل، وهي محل نظر الخالق -تعالى-، وهذا ما قاله الشافعي في الحجّ: “لو نوى بقلبه حجًّا، وجرى على لسانه: عمرة أو عكسه، انعقد ما في قلبه دون لسانه” (المجموع، وممَن نص على ذلك أيضًا ابن قدامة في المغني)؛ ولذا قال -تعالى-: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (البقرة:225)، وقال: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) (المائدة:89)؛ لذا قال السيوطي -رحمه الله-: “إن مَن سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصدٍ، فلا تنعقد، ولا يتعلق به كفارة، أو قصد الحلف على شيء فسبق لسانه إلى غيره”.
ولذلك كان الجهر بالنيّة لا يجب ولا يستحب باتفاق علماء المسلمين، ولم يثبت الجهر بالنية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن أحدٍ مِن أصحابه، ولا عن أحدٍ ممَن يُقتدَى به مِن علماء الإسلام؛ وذلك لأن الأصل ما وقر في القلب ونواه العبد؛ ولذلك فإن الإخلاص هو الدين الذي بعث الله به الرسل جميعًا، فكان محور دعوتهم ولبّها، وهو الدين الذي طالبت به الرّسلُ الأمم التي أرسلت إليها: (وَمَا أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدِّينَ حُنفَاء) (البينة:5)، وكلّ رسول كان يقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف:59)، وقد قرّر الله -تعالى- هذه الحقيقة: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبِلِكَ منْ رَسُولٍ إلاَّ نوحِي إلَيْهِ أنه لاَ إلهَ إلاّ أنَا فاعْبدونِ) (الأنبياء:25)، وقال: (وَلَقَدْ بَعَثنا فِي كلِّ أمَةٍ رَسُولا أن اعْبدوا الله واجْتنبوا الطاغُوتَ) (النحل:36)، والآيات حول هذا المعنى كثيرة جدًّا في القرآن العظيم.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.