مقالات متنوعة

مقاصد المكلفين (2)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أشرنا في المقال السابق إلى خطورة أمر النية، وأن مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري -جلَّ وعلا-، وأمر النيات يحتاج دائمًا إلى تقويم وتهذيب ورعاية، وذكرنا أن الشرع لم يعتد أو يعتبر الأفعال التي وقعت دون قصد وإرادة، كالأعمال الصادرة مِن المجنون والمخطئ، والساهي والغافل والنائم، ونحو ذلك، فلا يُعتدُّ بها إن كانت طاعات، ولا يعاقب عليها إن كانت معصية.

ثم نريد أن نسلِّط الضوء في هذا المقال على مسألة مهمة ألا وهي: أن النيّة هي سر العبودية وروحها.

قال ابن حزم -رحمه الله- في هذه المسألة: “النية هي سر العبودية وروحها، ومحلها مِن العمل محل الروح من الجسد، ومحال أن يعتبر في العبودية عمل لا روح له معه، بل هو بمنزلة الجسد الخراب” (إحكام الأحكام لابن حزم).

والذي يظهر مِن استقراء الأدلة الشرعية: أن المخاطب والمأمور بالتكاليف الشرعة هو النفس الإنسانية، وأما الجسد فهو الآلة القائمة بتنفيذ الأمر، فإذا قام البدن بعمل معين بلا نية في القلب والنفس، كان ذلك كشجرة لا أصل لها، ومِن ثَمَّ لا فائدة فيها؛ لذا اهتم الشرع بأعمال القلوب وجاءت النصوص واضحة في ذلك، لأن القلب هو موضع الإيمان، ولابد من إرادة قلبية قبل الشروع في أي عمل من أعمال الجوارح، فالقلب هو ملك الأعضاء، والأعضاء هم الجنود والرعايا، وهو مصدر التوجيه، وهو محل الأسرار، قال الله -تعالى- في حق مَن قاموا بتحقيق مفهوم الولاء والبراء: (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (المجادلة:22)، وقال -تعالى-: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:7)، وقال -تعالى-: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14)، والآيات حول هذا المعنى كثيرة.

ومِن السنة يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التَّقْوَى هَاهُنَا) وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم). ويقول أيضًا: (أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (متفق عليه)، وكان مِن دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وقال أيضًا: (إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وليس معنى ذلك أنه يكفي التصديق بالقلب فقط، بل لابد مِن عمل القلب والجوارح معًا، ومِن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة سالفة الذكر على أن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب فقط، وأن أعمال الجوارح  ليست من الإيمان.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص”.

فلابد مِن قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح. فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، ثم إن هذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتعظيم الله ورسوله، والتوكل والإخلاص والإنابة والرضا واليقين، والخوف والخشية، ونحو ذلك، ثم قول اللسان وأعمال الجوارح مِن صلاة وصيام، ونحو ذلك.

ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

زر الذهاب إلى الأعلى