مقاصد المكلفين (3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق أن النية هي سر العبادة وروحها، وأن المخاطب والمأمور بالتكاليف الشرعية هي النفس الإنسانية، ثم إن الجسد هو القائم بتنفيذ الأوامر، وتحدثنا عن معنى قول القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، ونريد في هذا المقال أن نسلِّط الضوء على مسألة مهمة، ألا وهي: تأثير النية فى الأعمال، فالنية تؤثر في الفعل والعمل، فيصير تارة حرامًا، وتارة حلالًا، وصورته واحدة، كالذبح مثلًا، فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لأجل الله، ويحرمه إذا ذبح لغير الله، والصورة واحدة.
وقد أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى هذه المسألة حيث قال: “فالشيء الْوَاحِد تكون صورته وَاحِدَة، وَهُوَ منقسم إِلَى مَحْمُود ومذموم: كالفرح والحزن والأسف، وَالْغَضَب والغيرة، وَالْخُيَلَاء والطمع، والتجمل والخشوع، والحسد وَالْغِبْطَة، والجرأة والتحسر، والحرص والتنافس، وَإِظْهَار النِّعْمَة وَالْحلف والمسكنة والصمت، والزهد والورع، والتخلي وَالْعُزْلَة، والأنفة وَالْحمية والغيبة، وَفِي الحَدِيث: أَن مِن الْغيرَة مَا يُحِبهَا الله وَمِنْهَا مَا يكرههُ، فالغيرة فالتي يُحِبهَا الله الْغيرَة فِي ربية والتى يكرهها الْغيرَة فِي غير ربية، وَإِن من الْخُيَلَاء مَا يُحِبهُ الله وَمِنْهَا مَا يكرههُ، فالتي يحب الْخُيَلَاء فِي الْحَرْب” (الروح).
لذا فإن العبد يبلغ بنيته ما لم يبلغ بعمله؛ فالعبد الذي ينوي نيَّة صادقة ولا يستطيع تحقيقها في الواقع؛ فإنه ينال الأجر والثواب بنيته، ففي الحديث: (مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ) (رواه مسلم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “مَن نوى الخير وعمل منه مقدوره، وعجز عن إكماله، كان له أجر عامل”، وقال أيضًا: “الْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ” (مجموع الفتاوى).
وهذا المعنى يظهر جليًّا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أنه تكفي النية حتى يتحقق هذا الجزاء، ولكن يُشترط لذلك أن يكون عاجزًا عن العمل، فإن كان قادرًا على العمل كله أو بعضه: فإنه يفعل ما يستطيع منه، وقد حمل بعض الفقهاء قوله -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ) على أن المراد: استواؤهما في أصلِ أجرِ العمل، دون مضاعفته.
فالقائم بالعمل تحصل له المضاعفة: الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، أما الناوي فقط: فيكتب له الثوب بلا مضاعفة، والله تعالى أعلم.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.